دروس وعبـر
من هجرة سيّد البشـر صلّى الله عليه وسلّم
حامد بن عبدالله العلي
الحمدلله ...في الهجرة النبوية دروس عظيمة ، يتعذّر إحصاؤها ، وذلك أنها كانت معركة الإسلام التي سبقت معركة بدر العظمى ، إذ كانت بين جيشين ، جيش الكفار من قريش ، وجيش محمد عليه الصلاة والسلام ، وأمّته .
ذلك أنَّ الصديق الأكبر رضي الله عنه كان هو كـلُّ أمّة الإسلام ، فهو الذي إذا وُزن بالأمّة رجَح بها كما صح في الحديث ، ولهذا إختاره صلّى الله عليه وسلم للهجرة ، ليكتـمل فيها ، وبهما ، تمثـُّل أوّل معارك الإسلام ، ولهذا قام أبوبكر الصديق رضي الله عنه بكلّ ما تقوم به الأمّة في معركة الهجرة ، فأدى عنها كلَّ واجباتها ، وكان أحقَّ بذلك ، وأهل لذلك، رضي الله عنه ، وأرضاه ، وجزاه عن أمّتنا ما يجزي صدّيق عن أمّته .
ألـم تروْا كيـف وصف الله تعالى الهجرة بأنها معركة الإسلام ، التي نصر الله فيها نبيَّه وصاحبه ، فقال الحق سبحانه : ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
فقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات ، جميع مفردات المعركة بين الحقّ والباطل : النصر ، بعد الإخراج ، والمواجهة ، وإنزال السكينة ، والتأييد بالجنود ، ورفع كلمة الله لتكون العليا ، وإسفال كلمة أعدائه لتصير السفلى ، وهذه كلُّها ألفاظ القرآن في وصف معارك الإسلام
وفي هذه الآيات يبيّن الله تعالى أنّ الدينَ منصـورٌ لامحالـة ، وأنّ الله تعالى يستعمل في نصـر دينه من يشاء ، حتى لو كان رجـلاً واحداً عن أمّـة ، فالله تعالى على كلِّ شيء قدير ، كما جعل إبراهيم عليه السلام أمة وحده ، ونصر به الإسـلام ، ومن عظيـم فقه السلف قولهم : ( الجماعة هي الحق ولو كنت وحدك ) .
والهجرة سنّة النبيين ، كتبها الله على المرسليـن من رب العالمين ، وقـد كان مهاجرهم إلى بيت المقدس ، غير نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، فجعل الله مهاجره إلى طيبة ، ولهذا أسري به ليلة المعراج إلى بيت المقدس ، لتكتمل له الفضائل بالهجرة إليه أيضا ، وليجمع الله له المساجد الثلاثة في حياته ، ويكرم أمَّتـه من بعده بذلك أيضا ، فتصير هذه المساجد المعظَّمة ، وهي أعظـم بقاع الأرض بركةً ، تصير تحت ولاية خير الأمم ، ولهذا فستبقى هذه الأمّة متأخـّره عن الإمامة العظمى للأمم ، حتى تستعيد المسجد الأقصى ، الذي سلبه منها ، كفرة أهل الكتاب من الصليبين ، والصهاينة.
وفي الهجـرة عبـرٌ كثيرةٌ جداً :
منها أنـَّه لا إيمان مع تقديم أيِّ شيء على العقيدة ، وقد امتحن الله تعالى إيمان المسلمين الأوائل بالهجـرة ، فقدموا عقيدتهم على الأوطان ، والعشيرة ، و المال ، وكلِّ محبوبات الدنيا ، وأهواء النفوس ، فهاجروا إلى الله تعالى ، لينصروا دينه ، وليُعلـوا كلمته ، تاركين كلَّ ما سوى ذلك وراء ظهورهم .
فلما فعلوا ذلك ، وعلم الله ما في قلوبهم من تقديم مراده على مراداتهم ، ودينه على جميع أهوائهم ، ملَّكهـم الدنيا بأسرها ، وألقى إليهم بسواريْ كسرى ، وكنوز قيصر ، ونواصي جبابرة الأرض ، على قاعدة : من ترك شيئا لله عوّضه الله خيراً مما ترك ، وكذلك هذه الأمّة إذا تمسـكت بعقيدتها ، وقدّمتها على كلّ ما سواها ، ورفعـت شريعة الله تعالى ، وأعلت كلمتها ، نصرها الله ، ورفعها ، وأعزّها.
وأما إذا أخلدت إلى الأرض ، ورضيت لنفسها أن تتقـزَّم بأوهام الشعارات الجاهلية ، من وطنيّة ، وقوميّة ، وحزبيـّه ، وحدود إستعمارية ، فسوف يُسلب منها عـزُّها ، كما هو حالها هذه الأيام ، حتى ترجـع إلى دينها فيرفعها الله به .
ومنها أنه لا يحدث تغيير في حياة الأمم ، إلاّ بالبذل ، والتضحيات العظيمة .
ومنها أنَّ التوكل على تعالى ، هـو مفتاح النصر ، وتأمــل ما فـي قول الله تعالى : ( لاتحزن إن الله معنا ) من حقيقة التوكل ، الذي ألقى في القلـب السكينة في أصعب الأحوال.
ومنها أنه لانجاح لأيِّ مشروع إلاّ بالتخطيط السليم ، واستكمال الأخذ بالأسباب ـ بحسب القدرة ـ وعدم التفريط بأيّ وسيلة من شأنها أن تنجح المشروع ،
وقصة الهجرة مليئة بهذا الدرس المهم ، ولهذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة تنجح الهجرة إلاّ وأخذ بهـا ، حتى جعل التموين لأسماء رضي الله عنه ـ وفيه أهمية دور المرأة في نهوض الأمة ـ وللاستخبارات : عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه ، وللتغطية وتعمية العدوّ : عامر بن فهيرة ، ودليل الطريق هو : عبد الله بن أريقط.
ومع أنّ الله تعالى قادرٌ على نصر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بما شاء ، غير أنّه أمره بأخذ كلِّ التفاصيل الدقيقة لإنجاح مشروع الهجرة بعيـن الإعتبـار ، حتّى إنّه جـاء الصديق ( متقنّعا ) وقال له : أخرج من عندك ، ليبلّغه الأمر بالمسيـر .
ثــمّ إختفى في غار فمُهُ الضيّق بخمسة أشبار ، وطوله ثمانية عشر شبرا ، ولايتسع إلاَّ لشخصين ، وفي طريق معاكس لطريق هجرته ، ومكث فيه ثلاثة أيام ، وذلك ليسنّ لأمته أنّ الإختفاء من الأعداء عند الحاجة ، من حسن التدبير للرسالة ، ولايتنافى مع الشجاعة ، وفيه أبلغ رد على الأغبيـاء الذين يعيبون على المجاهدين التخفي في الكهوف !
وفي إختفائه صلى الله عليه وسلم في غار (ثور) الضيق ، إشارة إلى أن الإنطلاقات العظيمة في ( الثورة) على الباطل ، تمرّ بمضايق ثم تنتصر .
ومن عجائب التقدير في قصة الهجرة أنّ ( الإثنين ) خرجا من الغار يوم (الإثنين) ، ودخلا المدينة يوم ( الإثنين ) ، وإنما ترفع الأعمال يوم الإثنين .
وفي الهجرة درسٌ يبيّن عظـم فضل الصحابة ، وأنَّ الدعوة أحيانا تستلزم تغيير البيئة لإنجاح المشروع ، وانَّ مكر الأعداء مهما عظم ، فلن يطفىء نور هذا الدين ، وأنّ السعي للتمكين في الأرض ، بإقامة الدولة المجاهدة الحاكمة بالشريعة من أعظم فروض الدين ، ولو لم يمكن ذلك إلاّ بهجرة وجبت الهجرة على ما فيها من المشاقّ ، وأنّ التمكين لايأتي إلاّ بعد الإبتلاء ، وأنّ من صدق في نصر الدين ، نصره الله وأيده بالآيات ، حتى يسخّر له عدوه ، وتأمَّل كيف أنَّ سراقة انطلق وراء النبي صلى الله عليه وسلم و الصديق ، طامعا في جائزة قريش ، فآل آمره إلى أن قال : فأخبرتهم أخبار ما يريد الناس ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع !
وأنَّ الدعوة إنما تأخذ في مراحل حتى تبلغ منتهاها ، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، ولهذا تفشل مشاريع العجلة التي تنشد إقامة نظام الحكم الإسلامي ، وتنتهي إلى فوضى ، لأنها لم تسلك طريقة النبوّة الهادية لكل خير ، وتأمـّل كيف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة ليقيم فيها دولة الإسلام ، إلاّ بعدما شاع قبول رسالته فيها ، ومهّد لدولـته بإكتساب الأنصار ، حتى قال جابر رضي الله عنه في حديث العقبة : حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلاّ ودخله الإسلام
وحتى مع قدومه المدينة ، كان يتألف الناس ، ويراعي ما هم فيه من الأحوال ، ريثما ينقلهم بالتدريج إلى مشروعه ، ثم بعد ذلك أطـلق سيف الجهـاد.
وأنّ الصراع بين الحق وبالباطل ، يمـر بمراحل : أولها بعث الدعوة إلى الحق ، ثم الانتشار وكسب الأنصار ، ثم المواجهة الحتمية مع الباطل بالحجة ، والبيان ، ثم معركـة القـوة ، والسنان ، ثم التمكين لأهل الحق ، ولابد من الابتلاء ، و الامتحان في مرحلتي المواجهة قبل التمكين ، وقد تطول هذه المراحل فتأخذ عقودا ، وقد تقصـر ، بحسب الأزمنة ، والأمكنـة .
وأنَّ تسلط الكفار وعلوّهم في بعض مراحل الصراع بين الحق ، والباطل ، سنة ماضية ، لا تضر أهـل الحق ، ولاتدل على هوانهم على الله تعالى .
وأن الحقّ ، إنما يُنصر بأنصاره من الرجال ، ولهذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع المهاجريـن إلى أنصاره ، قال تعالى ( هو الذين أيَّدك بنصره وبالمؤمنين ) ، ولهذا لابد من حسن اختيار الأنصار لدعوة الحق ، فإن وجدوا في بيئة أخرى ، فليهاجر الداعي إليهم .
و أنَّ الله يجعل لمن يهاجر في سبيله مراغما في الأرض وسعة ، فيفتح له أبواب الخير ، ما ينصر به دعوته ، مما لم يكن في حسبانه قـط
،
تنبيه :
،
في أن الهجرة لم تكن في محرم ، غير أن التأريخ الهجري ابتدأ به :
قال ابن حجر رحمه الله : ( وعن ابن شهاب قال : كان بين ليلة العقبة - يعني الأخيرة - وبين مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أشهر أو قريب منها " . قلت : هي ذو الحجة والمحرم وصفر , لكن كان مضى من ذي الحجة عشرة أيام , ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول )
كما اختلف العلماء في اليوم الذي دخل فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم ، المدينة المنورة ، قال ابن حجر : ( في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " قدمها لهلال ربيع الأول " أي أول يوم منه , وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق " قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول " ونحوه عند أبي معشر , لكن قال ليلة الاثنين , ومثله عن ابن البرقي , وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم ، وسيأتي في ذكر حديث في البخاري أنه دخلها يوم الاثنين 12 ربيع الأول).
وإذا كان قد دخلها 12 ربيع الأول ، فهو يوافق 24 سبتمبر 622م
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
. الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 19/12/2009 عدد القراء: 18705
أضف تعليقك على الموضوع
|