من أسـرار الصـوم
حامد بن عبدالله العلي
عندما تتأمَّل في الصيام ، تجـد فيه معنى عظيـما في العبودية ، لايوجد في غيره من العبادات ، وهو أنَّه العبادة الوحيدة التي يمكنك أن تتلبَّس بها أطول وقت ، وتكون فيه كلَّه ، قائما بالعبادة ، لاتنخرم في لحظة واحدة .
ولهذا استحبَّ من استحبَّ من السلف الوصـال ، وحملوا النهي عنه على أنَّه مخصوص بمن يضعِفه ، فقد أرادوا تحقيق هذا المعنى الذي لايوجد مثله إلاّ في ملائكة الله تعالى التي تتواصل العبادة بلا فتـور أبد الدهـر.
بل هي العبادة الوحيدة التي يمكن أن يجمع معها العابـد في وقت أداءه لها ، كلَّ العبادات الأخرى ، من الطهارة ، إلى الجهاد في سبيل الله
ولهذا عظُم أمره عند الله تعالى حتى قال جلَّ ، وعزَّ ، في الحديث القدسي ( إلاَّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به ) متفق عليه ، وبلغ من تعظيمـه أن اختار الحقُّ سبحانه ، شهر الصـوم ، ليكون الشهر الذي يُنزل فيه القرآن ، وفيه ليلة القدر ، وتفتح أبواب الجنان ، وتغلق أبواب النيران ، ويعتق الله فيه كلَّ ليلة من النار من شاء أن يعتقهـم .
فالصائم متعبّد لله تعالى في صحوه ، ونومه ، وشُغله ، وفراغه ، وصمته ، وكلامه ، وليس شيء يشبه الصيام في هذه الخاصية إلاّ الجهاد في سبيل الله ، فإنَّ المجاهد يجري عليه ثوابه من لحظة خروجه من بيته للجهاد ، ثم لايتوقف حتى يرجع ، فإنْ اختاره الله شهيداً كُتـب أجره إلى يوم القيامة .
ولهذا صار بين الصوم ، والجهاد ، وجهُ شبهٍ عظيم ، فالصائم مجاهد لجميع هواه ، وما تشتهيه النفس ، وفي الحديث ( المجاهد من جاهد هواه في ذات الله تعالى ) ، ولهذا هـو يضيِّق على الشيطان مجاريه ، في المكر به ، والمجاهد في سبيل الله يجاهد شياطين الإنس ، فيضيّق عليهم مجاريهم في المكر ضدّ إعلاء كلمة الله تعالى .
ومن هنا ـ والله أعلم ـ ارتبط الجهاد في تاريخنا بشهر الصوم ، فوقعت فيه أعظـم المعارك الإسلامية من بدر إلى معركة الفلوجة ، وكان التكبير شعار نهاية الصوم في عيده ، والتكبيـر شعار الجهـاد في سبيل الله تعالى ، وإذا فتحوا مدينة ، أو قرية ، أو حصنا ، كبـَّروا في نواحيـها.
فعيد الجهاد الفتح بالتكبيـر ، وعيد الصوم الفطر بالتكبيـر .
وكما أنَّ القرآن يرتقي الصوَّام إلى فهم معانيه أكثـر من غيـرهم ، فصومهم يهيّئهم لنيل هذه المنزلة العالية ، ولهذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يواصل الصوم ثلاثين يوما ، ثم أن يتمّها بعشر ، حتى يتلقّى كلام الله تعالى التوراة بعد هذا الجهاد العظيم ،
كما أنَّ القرآن هذا حاله مع الصيام ، فكذلك مع الجهاد في سبيل الله ، فإنّه وسيلة لإعلاء كلمة الله القرآن ، فغاية الجهـاد ، ونهايته ، إعلاء القرآن في الأرض ، كما أنَّ الصوم يُعلي العبد إلى القرآن في نفسه ،
وقد قال تعالى ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس ، وبيّنات من الهدى و الفرقـان ) وسمّى الله تعالى أعظم غزوة في الإسلام ( يوم الفرقان ) .
ولهذا صار رمضان شهرَ القرآن ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يواصل الصوم فيه ، لأنَّ جبريل عليه السلام ، إنما كان يراجعه القرآن في رمضـان .
وشُـرع فيه بعد الصوم في نهاره ، قراءة القرآن في المساجد في صلاة جماعة في ليله .
ولنرجع إلى ما ذكرناه أوّل المقال ، وهو ما في الصوم من الخصوصية في التعبـد ، فإن قيل : فالصائم إنما منع من النكاح ، والأكل ، و الشرب ، غير أنَّ في النفس شهوات أخرى تطلبها ، فكيف يتحقـَّق ما ذكرته من المعنى ، فالجواب : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع بيان هذا ، فقال : ( من لم يدع قول الزور ، و العمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) والزور هو الباطل كلـَّـّه ، كمــا قال تعالــى ( والذين لايشهدون الزور ) أي لايحضرون أماكن الباطل.
وقال عليه الصلاة والسلام للصائم : فإن سابّه أحدٌ أو شاتمه ، فليقل إني امرؤ صائم .
وذلك لأنّ الصائم متلبسٌ بالعبادة الدائمة كما ذكرنا ، ففيه شبهٌ من المصلِّي ، وكما أنَّ المصلّي لا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يتكلّم ، فكذلك الصائم ، غير أنه لما كان تحريم الكلام على الصائـم مع طول وقت الصـوم ، مشقّته عظيمة ، مع ما يترتب عليه من مفاسد ، أبيح للصائم الكلام ، وشُـدّد عليه فيه ، وأمّا الصلاة فجعلت الكلمة فيه عمداً تبطل الصلاة .
ومن أسرار الصوم أيضا أن الله تعالى يبسط فيه موائد رحمـته لعباده ، ويظهر لهم بعض ما في كنوزه من الخيرات ، وأعظم ذلك أنَّه يغلق أبواب النار ، ويفتح أبواب الجنان .
فتُفـتح قلوب المؤمنين إلى نيل ما في الجنة بالعمل الصالح ، ويُغـلق عليهم ضدُّه ، إذ كان بين ذلك الإغلاق للنار ، والفتح لأبواب الجنـة في السماء ، وبين هذا الإغلاق والفتح في قلوب أهل الإيمان ، إرتبـاطٌ وثيق .
ولهذا تفتح أبواب الجنة كلّها ـ كما صح في الحديث ـ لمن يتوضّـأ ، فيتشهَّد بعد وضوءه ، وقال العلماء لأنـّه تطهـّر من الذنوب بالوضوء ، وأتى أعظم العمل الصالح بالشهادتين ، فتـمّ له من الإيمان ما تـمّ ، ففتحت له أبواب الجنة .
فكأنَّ مفاتيح أبواب الجنة في نفوس المؤمنـين ، وقد أعطاهم الله تعالى بإيمانهم القدرة على مالايطيقه أحـد من الخلق أجمعيـن.
كما أعطى الصائم القدرة على أن يوصـل إلى الله تعالى المتمجـّد في علاه على عرشه العظيـم ، ما هو أطيـب من ريح المسـح ، فيجد الله تعالى تلك الرائحة الزكيّة من عبده الصائـم ، وقد قال بعض العلماء : لو لم يكن للصوم إلاّ هذا الفضل العظيم لكفاه .
ومن أسرار الصوم أنَّ الله تعالى يمـرنَّ فيه المؤمن ضعيف الإيمان على قتال عدوِّه ، فيعلّمه القتال ، ويدرّبـه على فنـونه ، ويُبقيـه في هذا المعسكر شهراً كاملا ، حتّى يصلُب عوده ، ويتخّـرج منه مقاتلا ، قويا ، صلبا ، لايلين .
وذلك أنَّ الله تعالى يسلسل الشياطين في شهر الصـوم ، ويمـدُّ المؤمن بعبادة الصوم ، وهي عبادة متواصلة ، ترقى بالنفس إلى كمالات الإيمان ، كما ذكرنا ، فتصير صورة المؤمـن مع عدوِّه ، وكأنَّ الشيطان موثـقٌ إلى سارية ، والمؤمن يوجـّه السهام إليه ، فيتدرَّب على حربه ، شهراً كاملا ، فيدع الشهوات ، ويتجنَّب قول الزول ، ويملك غضبه حتى لو سبَّه أحدٌ ، أو شاتـمه ، فيعـوِّد نفسه بذلك على التحكُّم في القـوّة الغضبيّة ، والقـوّة الشهوانيّة ، وهما مدخلا الشيطان على الإنسان .
ويقول العارفون في النفس البشرية ، أنَّ في مدة الشهر سـرٌ خفي ، وهو أنّ الإنسان لا يصبـر على شيء شهراً كاملا إلاَّ صار له سجيـَّة لعام ، حتى يأتي رمضان الذي بعده ، فيعيد التدريب ، وهذا من أسرار تحريـم تأخيـر القضاء إلى أن يأتي رمضان التالي .
كما ذكر العلماء أنَّ العبـد لايصبر على شيء عاماً واحداً ، إلاَّ صار له سجيّة بقية عمره ، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب للتائب سنة ، وفي عقوبة الزاني ، تغريب عام .
هذا والصائمون في رمضان أقسام
أحدها من يرتقي مع رمضان ، وهم الصالحون الذين أعمروا أيامهم كلَّها بالعمل الصالح ، فلايجدون في رمضان مجالا لزيادة ، فهم مرتقون أصلا ، لكن جاء رمضان فزاد ثواب أعمالهم ، أضعافا مضاعفة .
وهم صفوة الصفوة ، وهم قـليل جداً في الأمـّة ، لكنهم قطب رحاها ، وسـر قوتها ، وعلاها .
والثاني : من يرتقي به رمضان ، ثم يبقى في رقيّه ، ولاينزل عن درجته بعده ، وهم الصالحون الذين كانوا مقصّرين في منازل السائرين ، فلمّا جاء رمضان رقى بهم ، فعلوْا به ، وبقــوْا .
والثالث : من يرتقي به رمضان ، لكنّه ينحط عن منزلته التي بلغها فيه إلى أدنى منها بعده ، وهؤلاء أكثر الصالحين من أهل الإستقامة .
والرابع : من ينتشلهم رمضان من الغفلة ، أو المعاصي ، فيصلح حالهم بسببه ، ويرتفعون عن درجة الظالمين أنفسهم ، إلى المقتصدين ، وقـد يبقون فيها ، أو يلتحقون بأحد الأقسام السابقة ، في رمضانات أخرى ، وهؤلاء هم موكب التائبين في رمضان ، وفي كلّ رمضان قوافـلٌ للتائبين ، بل أكثـر التائبين يتخرجّون من مدرسته.
والقسم الخامس : من يمـرُّ عليهم رمضان ، على أنه مناسبة للتهاني ، والموائد ، والمجالس ، والسهر ، يصومونه صيام العادات ، كما يصلون صلاة العادات ، فيكونون بعد رمضـان ، وفيه ، كما كانوا قبله ، طاعاتهم هي هي ، ومعاصيهم ، وهم غالب الصائمين ، نسأل الله أن يهديهم ، ويصلح أحوالهم .
وبعـد :
فنسأل الله تعالى أن يفيـض علينا من بركات هذا الشهر العظيـم ، من أعلى الدرجـات ، وأن يرزقنا فيه صيامه ، وقيامه ، وتلاوة كتابه ، على الوجه الذي يرضيه.
كما نسأله سبحانه أن يرزقنا قلوباً سليمة من الحسـد ، وصدوراً سالمة من الغـلّ على المؤمنين ، وأن يصلح لنا شؤوننا كلَّها ، وأن يجعل عاقبة أمرنا كلَّه رشدا ، وأن يعيد أمة الإسلام إلى عزها ، ويرفع بالجهاد رايتها آمين. الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 21/08/2009 عدد القراء: 26678
أضف تعليقك على الموضوع
|