الخـُريّـة فـي البلاد الخَرَبيّـة !
حامد بن عبدالله العلي
ضُحك على شعوبنا العربيـّة مرات ومـرات ، ولُدغت من الجُحْـر ذاته _ مـذْ هان عليها دينُهـا _ كـرّات وكـرّات ، ولكن عُظـم تلك ، فـي ثلاث ، أحدهـا عندما قيل لهـم ثوروا على الخلافة العثمانية ، وسنعطيكم الولايات العربية المتحدة ، فقطّعوهـم إلى قطعـان بائسـة ، بينها حـدود خائسة ، وأعطــوا كلَّ مجموعة منهم (خرْقـةً) ملوَّنـة مثــل ( الشّكليته ) ، ومقطوعة موسيقية يغنـُّون عليها ، وكرسي أزرق لامـع في مبنى مستطيل ، في الجانب الشرقي من منهاتن في (نيويورك) ، هنـاك في حضـن العـم سـام وبجـواره !
ثم أدخلوهـم قطيعـا قطيـعا إلى حظيرة ( الأمم المتحدة ) ، وهم يمشون فرحيـن كالبلهـاء.. ماءءء .. ماءءء ، باااع .. باااع ، وجُعل على هذه الحظيرة خمس من الملاّك الكبـار ، إذا صوّت القطيع وفق مصالحهم أمضــوه ، وإلاّ أبطلوه بحـقّ (الفيتو) ، وهكذا تمت السيطرة على مئات الملايين من البشـرية المتكاثـرة بالجمـاع كل ليلة ، بخـدعـة عجيبة ، الأرحام تدفـع ، وملاَّك الأمم المتحـدة الخمس تبلـع !
والثانيـة عندما قيـل : ثوروا على الإستعمار الغربي وستنالون الحرية ، فجاءهـم بعـد الثورة ، أنظمة حكـم أسوء من الإستعمار !
والضحكة الثالثة جارية اليـوم بقهقهة تمـلأ الأشـداق ، وتجلجل الأضلاع ، عندما قيل : إنـكم في ( عصر الحرية ) و( والليبرالية ) و( الرأسمالية ) التي ستملأ حياتكم حرية ، ورفاهـا ، ورخاء ، ودعـة
وعندهـا تخيَّلـت الشعـوب العربية المسكيـنة عصـراً سينتخبون فيه السلطة التي تدير شؤون حياتهـم ، من (مصارينهم ) الجائعـة إلـى (مصائرهم ) الضائعـة ، وعهدا سيقوّمون فيه حكوماتـهم بالنقـد ، كما قال الصديق رضي الله عنه : ( إن أسأت فقوموني ) ، ويردُّون على الحكام أخطاءهم ، كما ردَّت امرأة على عمر رضي الله عنه علانيـة وهـو على المنبـر ، ويجهـرون بالنكيـر على خطاياهـم كما وصف الإمام بن حنبل قول الخليفة رئيس الدولة _ آنذاك _ بأنـَّه الكفـر بعينه.
وعندهـا أيضـا توهمـوا منـاخا سياسيـّا جديدا سيسألون فيها عن ثروات ذوي السلطـة ، من أين لك هذا ؟ كما سأل سلمان الفارسي رضي الله عنه ، الخليفة الثاني عن قميصه الثاني وهو يخطب على المنبـر ، وذلك لضمان أن يرجع مال الأمّـة إلى الأمّـة وليس إلى الكروش المتعفّنـة بوسائـل النهـب الرأسالميـة المتفنّنة ، تارة تحت ستار ( الخصخصة ) وتارة بحجـة ( ولـي الخمـر _ لعنه الله _ أدرى بالمصلحة ) !
ولكنَّهـم عندما تخيّلــوا ذلك ، فتحمَّسـوا ، وتشجَّعـوا ، وتراكضوا إلى أقلامهم ، ومنتدياتهـم ، وصحفهم ، وكتبهـم ، حالمـين بأنظمة حكمٍ تمثّلهم ، وسلطة مراقبة بالشعب ، و(مواطنة) تتمتّع بحقوقها كاملة ، وحرية معارضة توقف فساد الدولة ، وصحافة يخشاها ذوو النفوذ ..إلى آخـر أحلامهـم الوردية !
فوجئـوا بالصاعقـة ، وبالحقيقـة الفاجعـة ، وهـي أنَّ كلمة ( الحرية ) سقطت منها نقطة لم ينتبهوا لهـا ، وهي النقطـة على الحاء ، وأنَّ المقصود ليس إلاّ نشر (خِراء) الغرب ، وتوزيعـه على البلاد والعبـاد، أعني عهـره ، ودعارته ، ومن وحـل رذيلـته خلاصة عصارته ، هذه هي الحرية التي قصـدوا !
فيا مرحبـا _ عندهـم _ بالحرية الليبرالية في إفساد الأخـلاق ، وفي الدعوة إلى خلط الشباب بالشابات في المدارس لتكثـير اللقطـاء ، ويا مرحبا بحرية الليبرالية في نشر فضائيات الساقطيـن واللّخنـاء ، ويامرحبا بها في إشاعة الفحشـاء ،
وأهلا وسهـلا بها في كـلّ مجـال إلاَّ مجـال الإصلاح السياسي ، وتوجيه النقـد لأهل الكراسي !
وأما الفتاوى الشرعية فلها أيضا كلُّ الحرية في عصر الليبرالية ، إذا كانت تحرم المظاهرات لأنهـا ( تصد عن ذكر الله ) ! وتجيـز رضاع الكبيـر! ، وهذا يشمل أيضا إباحة رضاع كبير الدولة _ وحده لاشريك لـه إلاّ شريكـاً هو من صلبه اللعين _ من مال الأمـّة ، حتـى ينفجـر كرشه ، من فوق عرشـه !
أما فتاوى المقاومـة ، والجهـاد ، وتحريـر الأمـّة من الإحـتلال ، والإستبـداد ، والإنكار على ذوي الفساد ، وفتاوى الإصلاح السياسي ، وتحقيـق العدالة الإجتماعية ، وإصلاح القضاء ، والدفاع عن حقوق المظلوميـن ، والضعفاء ، والمستضعفين ، فليس لها من الحرية نصيـب ، وهي مهملة لأنها بـ( حاء ) مهملة ، غيـر معجمـة !
أستغفر الله العظيم ، حتى ننصف القـوم ، يُسْتثنى من ذلك ، السماح بالنقد السياسي بثلاثـة شروط :
أحدها : أن يتقدم بين يدي النقـد ، بعبارات الثناء ، والتبجيل ، والتعظيم لولي الأمر حفظه الله الذي ( لم يدع خـللاً إلاّ وتدخل لإصلاحه ، حتى لو عثرت بغلة في بيداء قاحلة ، أو خلأت ناقة على أرض مائلة ، لبـات شاكيـاً باكيـاً على ما فـرط في أمانة الله ، في خلق الله ، حفظه الله ) !!
الشرط الثانـي : أن يكون النقد لغير ولي الأمر ، ولسوى ما له علاقة بولي الأمـر ، تصريحـاً ، أو تلميحـا ، وإلاَّ كان تطاولا على المقام السامي ، وتلك الخطيئة التي هي في النظام العربي أعظم من الشرك نفسه !
الشرط الثالث : أن يمـرّ النقد إلى الناس إذا كان كتابـيا عبر الرقيب التابع للإستخبارات في الصحيفة ، أو وزارة الإعلام ، أما إن كان مباشراً وفي فضائية فيكفيـه أن يُبقـي الناشط السياسي في مخيلـته طيلـة وقـت اللقــاء صـورة ( الكلبشات ) ، والتهم الجاهزة المعلبة ، في أقـرب مركز شرطة من بيته ، وهو يتحدث فـي أيّ شأن سياسـي ، وهـو حينئـذ بمراقبة لسانه الطويـل لكفيـل !
هذه هي حقيقة الحرية اللييرالية ، ومن أراد أن يتعرف عليها مع أختيها العاهرتين الأخريين الديمقراطية الغربية ، والرأسمالية السكسونية ، فيلنظـر إلى أقـرب نموذج لتطبيقها المباشـر في بلادنـا ، أعني في العراق حيث قتل مليون عراقي ، وشرد الملايين ، ويعيش البقية في مثلث الخوف ، والقهـر ، والجوع ، تحت رايـات جيوش الليبرالية ، والديمقراطية ، والرأسمالية !!
وأيضا إلى النموذج الدائم لها في الكيان الصهيوني ، حيث يصطف الغرب المنافق بأسره مع مجرمي الصهاينة في إنتهاك كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة في حق الشعب الفلسطيني الأعـزل المحاصر .
فقط تجولوا في غزة دقائـق معدودة ، لتروا حقيقة المبشرين بعصر الحرية والليبرالية والديمقراطية والرأسمالية الحالمة بالحياة الرغـدة !
هذه هي الحرية التي يزعمون ، مكشوفة العورة تماما ، واقفة أمامكـم كما خلقها الله ، في صورة جماعية مع حكام العرب المعجبيـن بالليبرالية الغربية مكشوفي العورات كما خلقهم الله تعالى ، حفاة ، عراة ، غـرلا غير مختـونين .
ألا فليعـشْ عصر الحرية الليرالية ، الذي فيه الكاميرات تراقبنا في كلِّ مكان ، وأجهزة التجسس تتلصَّص حتـى على بيوتنـا ، ومجالسنا الخاصة ، وأجهـزة الرقابـة تجثـو على صـدور أقلامنـا ، وعلى أكباد ( الكيبورد ) ، حتـى لاننقـد ( فخامة الرئيس ) أو ( طويل العمر) بين الحيطـان سراً ، أو بين الخـلاّن جهـراً .
وهذا هو عصر الحرية الليبراليـة ، الذي إذا أراد أحدنـا أن يسافر فـي بلاد العرب ( أوطاني ) كلَّمـا سار قليلا في أرض الله تعالى ، يوقفـونه عند كـلّ حـد من الحدود السياسية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، تمامـا كما يقف الأسيـر ينتظر أين مصيـره ،
ثـمَّ الموظف ينظـر إليـك تارةً ، وإلى شاشة الكمبيوتر تارةً ، ينظـر إليك بنظرات غريبة ، وتقول في نفسك : ترى ما الذي يجـول في خاطـرة ، ويبدو أنَّ ثمـة معلومات في جهازه من جهتين ، ( البوليس العلني ) و( والإبليس السري ) ، فهـو يطابـق بينهمـا ! ثـم يعـيد النـظر كرتين إلـى ( الفيـزا ) ثـم إذا رجـع إليه البصـر خاسئا وهـو حسيـر ، لأنـّه لم يجـد بـدّا من إطلاقك سراحك مؤقـتا حتـى يستلمك الحد السياسي الثاني ، أفـرج عنك !! ..
ويسمّونـه عصر الحريـّة ، والشـعوب مستعبـدة لحكام الإستبداد ، والدول مستعبدة للقوى العظمـى ، والحـروب تبيد الملايين ، والشركات العلاقة تلتهـم ثروات الدول ، والمتوسطة تلتهم أقوات الشعـوب ، والصغيرة تلتـهم فتات الفقـراء !!
في تونس تضطهد المسلمة إذا لبست الحجاب ، والشاب إذا التحى ، وصلاة الجماعة بالبطاقة الممغنطة ، وفي مصر جُعـل النقاب جريمة لاتغتفـر ، وبيع الغـاز للصهاينة مسألة فيها نظـر ، وفي بقيـة الدول العربية حتى المساجد مليئة بالجواسيس ، والكاميـرات ، ونقـد السلطـة هـو الكفر الأكبر المخرج من الملة ، بينما شتم الدين حريـة رأي !!
والعالـم يصـرخ من الظـلم ، والفساد ، والجوع ، بسبب تسلط المستكبرين عليه ، وأكثـر ذلك في بلادنا العربية بسبب تركنا لديننا ، حتى عمَّهـا الخـراب ، فصارت (البلاد الخربية ) ، وليست العربية .
ولانجاة لنا مما نحـن فيه إلاّ بتحطيم كلَّ المقدسات التي قدَّسهـا الطغاة ، فجعلوا ذواتهـم فوق البشـر ، وكراسيهم فـوق النقـد ، وحولوا شعوبنا إلى ممتلكات يتوارثونهـا ، وثروات الأمة إلى شركات يتقاسمون عوائدها بينهم ، وبين المستعمـر الذي يسخـرّهـم لأطماعه في بلادنا .
ثـمَّ بأن نرجـع إلى مقدسات أمتـنا التي عـزت بهـا فيما مضى من الدهـر ، تلك التي عندما كانت تعيش عليهـا ، كانت حـرة حقـّا بين الأمم ، وعزيـزة بين الدول ، وكنا حقـَّا أحـرارا :
مقدّس : السيادة للشريعة ، والسلطة للأمـة .
ومقدّس : الحاكم نائب وأجيـر للأمـّة تراقبه ، وتحاسبه ، وتعزلـه.
ومقدّس : لا كيـان للأمـّة من غير إستقلال إرادتها عن الأجنبي ، ولا قوة لها غير سواعد أبنائها ، ولا حدود معـترف بها تفـرق بين أوطانـها.
ومقدّس : وأنتم الأعـلون إن كنـتم مؤمنيـن .
ومقدّس : كنتـم خير أمّـة أخرجـت للناس.
والله الموفـق
وهو حسبنا ، عليه توكـّلنا ، وعليه فليتوكـّل المتوكـّلون الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 22/05/2010 عدد القراء: 19291
أضف تعليقك على الموضوع
|