محاكمة فرعون!
حامد بن عبدالله العلي
محكمـة !! .. هكذا صاح حاجبـُها بصوتٍ مجـلجـل رهيب .. بينما يدخـُل التاريخُ قاعة المحكمـة !! .. نعـم التاريخ نفسه.. في محكمـته ..
ودخـل وهـو يسيـر بخطـى صرامـتُها تكاد تذهـب بالألبـاب .. ثـمَّ اعتلـي منصة القضاء .. بوجه يشعُّ نـورا يكاد يخطف الأبصارَ شعاعـُه .. كمـا الحقّ الأبلـج .. بلحية بيضاء تكـاد تضيء وقارا . .فاتَّخـذ له مجلسـا ، على عرش عظيـم المهابـة ، وعلى يمينه تبوّأت الحقيقة مقعـدا ، وعلى شماله تبوّأت العدالة مقعـدا ، فكأنما أشرقـت على القاعـة أنـوارٌ تتلألأ بالجـلالة .
وأمامه صفـوف الشعب المصـري المظلوم ، بأطمار مهلهلة ، وهيئات مبعثـرة ، وعيون أرهقتها الفاقـة ، ووجوه سفعتها المظالـم الشاقـّة ،
والجميـع في القاعـة يترقـَّب أن يُؤتـى بفرعون العصر ، ليُحاكم هنـا ، في محكمة التاريـخ التي لاتحابي أحدا ، ويبقى حكمها أبـدا سرمـدا
فماهي إلاّ هنيْهـة ، حتى سمع الجميع جَلبـَةً من وراء الباب الذي يدخل منه المتّهمون ، ثـمّ لم يرعْهـم إلاّ فرعـون يرسُـف في أغلاله ، ومعه زبانيته وكبار أعوانه ، يمشي مشيـة الذليل المنكسـر ، حتى أقيـم في قفص الإتهـام ، ورأسه مطأطىء بين كتفيـه ، يرمي بعينيـن خائرتين إلى ما بين قدميـه .
وخشعت الأصواتُ ، فلا تسمع إلاّ همسـا ، ولاتحسّ إلاّ همهمـة ، هنـاك من بين صفوف الشعب المظـلوم ، يرمقـون بأبصارهم فرعون في أسره ، ويتعجبـون من عاقبـة أمـره .
حتى إذا مـدَّ التاريخ يـده إلـى كتاب بين يديه ، ففتحـه ، انبعـث من بين صفحاتـه صـوتٌ ، كما لو كـان صوت ريح الحـقّ ، فخيـَّم على الأجـواء صمـتٌ مشـوب برهـبة المقام المهيـب.
فأطـرق الجميــع خُشَّـعا ..
والتفـت التاريخ إلى فرعـون فوجـَّه إليه القول : إني ساتلو عليك ، ما كُتب عليك ، مما اقترفت يداك في حكـمك لشعبـك ، ثم سأتلـو ما هـو لك ، فألق سمعـك وأنت شهـيد ، ثم واجـه الحقيقـة أمام شعبك ، والتاريـخ ..
لقـد سخّرت نفسك ، ومقدّرات وطنك ، لعدوّ أمتك الكيان الصهيوني ، ولحلفائه من الغـرب ، وتماديـت في ذلك حتى صار شعبُك يتضـّور جوعا ، من أجل أن يتقلّب الصهاينة في رغد العيش ، آمنين مطمئنين ، في أرض فلسطين المغتصبـة !
حتى قـد أمَّنت للكيان الصهيوني 40% من حاجته من الغـاز ّ! بأسعار أقـل بكثيـر من السعـر العالمي ، بينما حرمـت شعبك من عوائده ، من أجل أن يرضى الصهاينـة عنـك ، فيقرُّوك على نظامـك!
وقد تلاعبت بالقضية الفلسطينية ، وبالغت في الإضرار بهـا ، بما لم تسـبق إلى مثـله ، واتخذت معاناة الشعب الفلسطيني ، وسيلة للتكسـُّب لك ولأعوانـك ، وحوَّلت مصر إلـى مرتـع لجواسيس الموساد ، واستقبلت أشـدّ الناس إجراما في الأرض ، وهم قادة الكيان الصهيوني في قصرك ، وجاهرت بمودتهـم ، وأمددتهـم بكـلّ ما يحتاجـونه ، وفتحـت لهم أبواب مصـر ليعيثوا فيها فسادا ، وسخّرت أجهـزة الإستخبارت المصرية لتمـدّ الموسـاد بمـا تحتاجه من معلومات لحرب الفلسطينيين الشرفاء ، وكانت أجهزة مخابـراتك تعـذّب نشطاء حماس في سجونك ليُطلعوا الصهاينـة على كلّ ما يحتاجونه من معلومات ، حتى مكـان شاليط !!
ولطّخـت يدك في الدم الحـرام عندما حاصرت غزة ، والصهاينـة تدمّرهـا وتُسيل الدماء فيها أنهـارا ، بل أعنت الصهاينة على قتل الفلسطينيين ، بالإستخبارات ، والحصـار ، وتماديـت في تلك الجريمـة الشنعـاء ، حتـى صرت فيها شريكاً كاملا .
وهنـا سُمع دويُّ صـوت الشعوب أن : نعـم والله .. إي والله .. صـدق التاريـخ .. ثم رجعـوا مُنصـتين ..
وقد سرقت ثروة مصـر ، ونهبـت خيراتها ، لك ولأسرتك ،ولحزبـك _ الذي حولته مع مؤسسات الدولة ، إلى شركات لصوصية ، وعصابات أمنية ، لحماية عرشك وأطماعك ، وأطماع أسرتك _ ولكلّ من ينافق لك من أجـل أن تبقى متسلّطا على النظـام ، وحرمـت هذا الشعب المظـلوم من حقوقـه ، حتى صار لباسه الفقـر ، ومسكنه البؤس ، وفناؤه الحرمـان ، وأفسدت عليهم معايشهـم ، فزادت الضرائب ، وتدنَّت الخدمـات ، وخربت الزراعة ، ونشرت البطالـة ، وألحقـت خسائر بالإقتصـاد المصـري فادحـة لم تعرفها مصر في تاريخها.
حتى صار النـّاس يبيعون أعضاءهـم ليعيشوا ، وانتشرت فيهم الأمراض ، والأوبئة ، والبلايا ، والمحـن ، وأنت ومن معـك ترفـل في حياة التـرف ، والإسـراف ، في أبراج مشيّدة بالذهب ، والفضّـة ، والحريـر ، تنظـر إلى فقراء شعبك نظر المستكبـر ، وتراهـم بعين المحتقـِر !
وقد جمعتَ حولك اللصوص ، والمنافقين ، والفاسدين ، والمفسدين ، والمرتشين ، ومصاصي دماء الفقراء ، فتناهبـوا فيما بينهـم خيـرات أرض النيل ، وبطروا فيها كـلَّ البطـر ، حتى ألحقـوا بهـا خرابا ، لم تعرفه في تاريخـها كلّه .
وقـد أطلقـت زبانيـتك على شعبـك ، في ظـلّ أحكـام الطوارئ ، ينهشون كرامتهـم ، ويهتـكون أعراضهـم ، ويسفكون دماءهم ، ويسرقون أموالهـم ، ويسومونهـم سوء العـذاب ، فجعلت شعبك يعيش في رعبٍ دائم ، وذلّ على صدرهـم جاثـم ، طيلة ثلاثين عامـا .
وأجَّجت الخلافـات الطائفية في مصـر ، وفرقت الشعب ، ونشرت فيه الفتن ، حتى كانت أجهـزة الإستخبارات تفجّر في الأبرياء ، لمكاسب سياستك الجائرة .
وهنـا انطـلقت حناجـر المصريين من بين صفوف الحضـور ، تهتـف مؤيـّدة ، وتعيـد ما سمعـت مردّدة ، ثم عـادوا منصتــين ..
ولما قام شعبُك بحقـّه في التظاهر ، والإحتجاج السلمي ، أطلقـت عليه شرطتُك النـّار فقتـلت المئات ، ودهسـت مدرعات نظامـك الأبرياء من شعبـك ، مستهيناً بالدمـاء ، مستخفـاً بإزهاق الأرواح .
ثـم أرسلتَ الغوغـاء ، والمرتزقـة ، و( البلطجية ) والشرطة في لباس هذه الدهمـاء ، بعد أن تسلحـوا بالسيوف ، والهراوات ، والبنادق ، وكرات اللهب ، ، وبالدواب ، من الخيل ، والبغال ، والحميـر ، والجمـال ، التي خلقه الله تعالى كما قال ( لتركبوها وزينـة ) فجعلتهـا أنت للفتـك بالمظلومين ، وتفريق المتظاهـرين المحتجين سلميـَّا علـى جـورك ، ولترهيـب وسائل الإعلام التي تبثُّ الحقيقـة عن جرائمـك !
وقد سعيت لإضعاف الأمة العربية بأسرها ، وفرقت شملها ، وأفسدت مؤسسة جامعة الدول العربية ، ومرّغـت بكرامة أمتك التراب ، طيلة فترة حكمـك الجائر .
وقبل ذلك كلّه لقـد كنت تبثُّ في المجتمع كلَّ ما يحارب الإيمان ، ويخـرب القيم والفضائـل ، ويفسـد الشرف ، ويهـتك المروءة في الناس ..
.
ثــمَّ ..
.
مـا إن انتهى التاريخ من تلاوة ما تـلى ، حتـّـى علت التاريـخ نفسـه الرحضـاء ، من قبـح ما رأى ، ومن سـوء ما سمـع ، وأخذتـه الدهشـة ، وتغشّـاه الذهـول !!
ثـمَّ أخـذ يقلـّب في صفحاته في غابـر الدهـور ، وخالي العصـور ، هل فيها مثل إجـرام هذا الفرعـون المتجبـّر ، والطاغية المتكـبّر ، فلـم يجد له نظيـرا في الطغيـان ، ولم يـر له مثيـلا في جرائـم بني الإنسـان !!
فرفع التاريخ رأسه إليه ، وألقـى ببصـره عليه ، متحيـّرا ، متعجبـا : أهذا إبليس أكفـر من كفـر ، أم الشـرّ بعينه تجسَّـد في هيئـة البشـر ؟!!
ولما كان التاريخ لايظلم مثقال ذرة ، ذهـب ليفـتح من كتاب التاريـخ صفحة ما لـه ، بعدما فرغ ممـا عليـه ،
فرفع فرعـون رأسه من قفص الإتهـام ، وأخـذ يتطاول ليرى علّـه يجـد حسنة ، أو يسمـع خيـرا فعلـه للأنام !
وكذلك فعـل الحضـور في قاعة محكمة التاريـخ ، ومرت لحظـات خيـّم عليها سكونٌ عجـيب ،
وحينئـذٍ .. رفع التاريخ ما يُكتـب فيه الحسنـات ، ومـا تُرقـم فيه الخيـرات ،
فإذا فيـه سطـرٌ واحـدٌ فحسـب :
الخير الوحيـد ..!!
الذي كان يمكن أن يفعله هـو أن يمتثـل لـ :
إرحــل
لكنه لم يفعــل !!
ثـمَّ .. رُفعـت الجلسـة للنطق بالحكـم
وبعد المداولة بين التاريخ ، والحقيقة ، والعدالة ، صدر الحكـم التالي على فرعـون :
يُلقـى في الدرك الأسـفل مـن مستنقع حثالة التاريخ ،
وذلك أنَّ مزبلة التاريخ قـد أرسـلت _ مسبقـا _ لهيئـة المحكـمة معتذرة عن إستقباله !!
وتـمَّ تنفيـذ الحكـم .. وفرح الشعب وصاح : يحيا العـدل
وذهبت هيئة محكمة التاريخ ..
ريثـما تُعقد جلسة الحكم للطاغية التالـي
الذي سيكـون بإذن الله تعالى :
طاغيـة ....
والله المستعان وهو حسبنا عليه توكلنا وعليه فلتيوكـّل المتوكّـلون .
الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 08/02/2011 عدد القراء: 24535
أضف تعليقك على الموضوع
|