التطبيـز مـع نتنياهـو وبيريـز !
حامد بن عبدالله العلي
كان الوقت ضحـى ، بإشراقـة منيـرة علـى صفحة الأفق الزاهيـة في سمـاء القاهرة ، كلُّ شيء في مصـر ذلك اليوم كان جميـلا ، وكانت في ذلك اليوم ، كأنها روضـةٌ أُنـف ، تنعكس عليهـا أشعـَّة الشمس بعـد أن حيـَّت زرقة السمـاء فإنتشـت ، تنبـع عيونهـا بالشَّمـم ، وتترقـرق غدرانهـا بالإبـاء ، ومعالي الهـمم ، وتمـلأ رُباهـا ، وهضابهـا ، قلائـد من لآليء العـزة ، وعقـود من عزائـم الأُبـاة.
نعـم كلُّ شيء كان جميـلا غير هذه السيـارة السوداء اللعينـة ، المتّجهـة إلى قصر عابدين ، حيث يقبع فـرعون مصـر ، منتظـرا السفير الصهيوني ، ( إلياهو ) في يوم الثلاثاء 26 فبراير 1980م ، ليقـدم أوراق إعتماده !
ولـم تكـد وسائـل الإعلام تذيـع هذا النبـأ ، حتى ارتدت إشراقة ذلك الصباح المنيـر تصيـح كأنهـا ليلـة مذعـورة ، واكفهـرَّت سمـاء القاهـرة ، وانتشرت فيها غيـوم تتطايـر ، تقعقـع برعـود غاضبـة ، واهتاجت الأجواء ، كأنهـا أمـواجٌ مزمجـرة ، تعلـو ، وتسفـل ، وترمي بالزبـد ، كتناثر العهن المنفوش ، وتطايـر من عيون المصرييـّن الأبـاةِ الشـرر ، وامتلأت صدورهـم بالغيـظ ، والغضـب ، وإهتـزت بهم الأرض والسماء ، ودارت الأرض والفضـاء ، وانقـلب عالي كلِّ شيء سافلـه .
وكان بين أولئك الأباة الغاضبـين ، الشاب المصري سعـد حلاوة ، وما أدراك ما سعد حلاوة ، إنه أوَّل شهيد ارتقـى في مشروع مقاومـة (التطبيع) مع الصهاينـة ، فقد اندفع به غضبه فإحتجـز _ غيـرَ مبتـغٍ سـوءاً بأحـد _ رهائن من موظفي الحكومـة ، واشترط طرد السفير الصهيونـي من مصر قبل إطلاقهـم ، فأطلق النظـام أول رصاصة من خيانـته على الضميـر العربي ، فأرْدتْ قنـَّاصـة الداخلية سعـد حـلاوة قتيـلاً .
ونُشـر الخبـر في الصحافـة : مجنون يحتـجز رهائـن في القليوبة !
ومنذ تلك الرصاصة الغادرة ، ومحاولات ( التطبيع ) مع الصهاينة لم تكـف أنيابها من النهش في جسد أمّتنـا .
غيـرّ أنَّ عمل حلاوة لـم يذهـب سُـدى ، فقـد ظهـرت حلاوته بعـدُ ، بفشل (التطبيع) على المستوى الشعبي في مصر فشـلا ذريعا .
لاريب أنَّ الصراع مع الكيان الصهيوني هو جوهر صراع أمّتنا مع أعدائها ، وأنَّ علينا أن ننعش ذاكرة أمّتـنا دائمـا بهذه القضية ، وبأنَّ أعظم نقاط ضعف هذا الكيان هو أنَّ مقومات حياته تأتـي من خارجـه :
من الدعم الصليبي بلا حدود لـه ، وهو دعم غربي بقيادة أمريكا ، فلنبق عداوة السياسة الغربية حيـَّة في ضميـر أمَّتنـا حتـَّى تسالمـها .
ومن التخاذل بل التآمر العربـي بلا حدود أيضـا .
ولئن سألـت أيُّهما أشـدّ على أمّتنـا ، فالجـواب أنَّ التآمر العربي مع الكيان الصهيوني هو الأشـدّ نكايـة في أمتنـا ، وهـو الأخطـر على حقوقها فـي فلسطين .
وما يُسمّى بالـ( تطبيع ) مع الكيان الصهيوني ، هو السـمُّ الناقع في هذا التآمـر ، وبه حصل الصهاينة على مكاسب كبيـرة ، وإستطاعوا أن يحققوا أهدافا خطيرة ، منذ كامب ديفيد إلى (أنابوليس) مرورا بوادي عربة بعد (أوسلو) .
وهـو الذي أدَّى إلى ولادة ( لقيط أوسلو) _ سلطة عباس دايتون _ وهو حمل سفاح إلتقـت فيه بويضـة التآمـر ، بنطفة الخيانـة ، وعلى أحـد أسـرّة منتجـع كامب ديفيـد كان اللقـاء .
وكانت قـد نُفخت فيه الروح الخبيثة في مدريـد ، وأمَّـا راضـع هذا اللقيـط حتّى الفطـام ، فهـو الجنرال دايتون ، وكانت الرضاعه عصارة رجيـع خبـث الصهاينة ، مخلوط بحثالة نجاسة السياسـة الأمريكية !
وليس هذا أوّل لقطــاء (التطبيـع) ، بل إنَّ عاهرتـه قـد مارسـت الجنس الجماعـي مع عدة أنظمة عربية ، فولدت منهـا عـدَّة سفارات ، وعدد من المكاتب التجارية ، ووقعت عدة إتفاقيـات ، ومعاهـدات ، مع بعض الأنظمـة العربية .
ومن هذا النسـل الخبيـث ، جاء مؤتمر حوار الأديان في مدريد ، وفـيه صافحت يـد الخيانة الدينـية بلباس الأزهـر ، يـد السفـاح بيريـز ، لإزالـة الحاجـز النفسي بين المسلمين ، والصهاينة !
وكلُّ شيءٍ كان مخطـَّطا له بدقّـة !
أليست المبادرة العربية نفسها تتضمن (التطبيع) الشامل وليس الجزئي مع الكيان الصهيوني .
و( التطبيع ) يعني موالاة أعداء الله ، بل موالاة أشـدّ الناس عداوة للذين آمنوا ، ويعنـي البـراءة ممن يجاهدهـم ، كما يعنـي التفريط في حقـوق الأمـَّة ومقدسـاتها ، والرضا بعـلوِّ الكفار على بلاد الإسلام ، وإسقاط فريضة الجهـاد .
كما يستلـزم تحسين صورة الكيان الصهيوني ، ونسيان كلِّ جرائمه ، ومنع نشر ما يحـرّض على الصهاينة ، وعقوبـة من يريـد بهـم أذى ، ولو بإعتقاله ، أو قتلـه .
إنـَّه يعني قلب العدوّ الممعـن في العـداوة وليـَّا نصيـراً ، والولـيّ النصير عدوَّا يُستحل دمُه ، ومالـُه ، وعرضُه ، وذلك في أخطـر قضايا الأمـّة .
وخطورته تكمـن في أنـه يبـدأ بفتح فجوة صغيرة في الردم الحائل بين أمَّتـنا ، ومكـر الصهاينـة ، ثم تتسـع هذه الفجـوة حتى يسقط الردم ، فتحـلَّ الكارثــة .
ولهذا لايجـوز السماح بأيّ خطوة قـد تفتح هذه الفجـوة ، فدرء مفسـدة التطبيع أرجح من المصالح الجزئيـّة ،
،
وخط الجهاد في فلسطين هـم المرجع في هذا الـباب ، مستفيدين من جهود مكاتب المقاطعة .
هذا ..ولايبعـد أنَّ الصهاينة إنمـا أطلقوا مشاريع واسعـة للإستيطان ، من أجل أن يحصلوا على (التطبيع) مقابل تجميد بعضـها ، وذلك أنَّ صحيفة هاآرتس ذكرت قبل عدة أشهر أنَّ دولا عربية وعدت ميتشل _ المبعوث الأمريكية _ بالـ(تطبيع) إذا تـمّ تجميـد _ وليس إزالـة أو حتـّى إيقـاف _ المستوطنات ، وقالت إنَّ مسؤولين كبار في الإدارة الأمريكية أخبـروا الصحيفة ، أنّ عدة دول عربيـة وافقـت علـى إفتتاح ممثليـّات ، ودول أخرى وافقت على منح تأشيرات دخول لرجال أعمال ، ولسائحيـن صهاينة ، وعلى فتح شبكات هواتف لشركات صهيونية !!
كما ذكرت الصحيفة أنَّ مسؤولين أمريكيين كبـار أكـَّدوا أنَّ دولا عربية ، وافقت على الظهور العلني مع مسؤولين في الحكومة الصهيونية .
ومن الملاحـظ في هذه السنة والتي قبلها ، تزايـد النشاط (التطبيعي) ، ليعتاد الناس عليه ، ومن الأمثلة _ لا على سبيل الحصر _ في الشهر الماضي شارك صحفي صهيوني في مؤتمر في البحرين للطاقة النووية ، وفي نفس الشهر شارك 17 شخصية صهيونية من الكيان الصهيوني في مؤتمر بالمغـرب ، وحضرت ليفني منتدى سياسي في مدينة طنجـة ! وفي شهر فبراير تعالت أصوات التونسيين منتقدة إستضافة الحكومة التونسية لشخصيات صهيونية في ندوة عن المحرقـة !
هذا بعض ما ظهـر ، وما يخفـى أدهـى وأمر .
وبعـد :
فإنَّ من أعظـم الواجب الشرعـي اليوم على العلماء ، والدعـاة ، قيادة الأمّـة في مواجهـة التحديـّات الكبـرى ، وهذه القيـادة لاتُؤتـي أُكُلهـا إلاَّ :
بعزيـمة لا تعرف الكلل ، وإصرار لايعتـرف بالملل ، واستمساك بالحق لايلين ، وثبات على المواجهـة ثبـات المستبصرين .
وبمعرفـة كافيـة بخطـط العـدوّ ، ومكـره ، وبجميـع وسائلـه ، للتمكُّـن من هزيمـته ، وكسـره.
ويجـب أن يكون من أهـمّ أولوياتهـم في هـذه المرحـلة ، قيادة الفكـر المقـاوم ، والإنتصـار لخط الجهـاد كله من أفغانستـان إلـى فلسطين ، مروراً بالمقاومة العراقية الباسلة ، وفضـح مخططات الحملة الصهيوغربية على أمّتنـا ، والتصدّي لها ، والتي تأتـي أكثـرها وراء سُتـُر الخداع ، وحُجُب النـفاق السياسي ، وقـد ألقيـنا الضـوء على بعضها في فتوى ( الرد المبين على المؤتمرين في مارديـن ) . هنـا
وهذا يعني أنَّ يضع العلماء العناوين الرئيسـة لحراكهم الثقافي والسياسي في الأمة في إطار دعم الجهاد ، و التصدّي للهجمة الصهيوغربية على الأمـَّة ، وكلّ ما سوى ذلك يأتـي تبـعا ، وتابعـا .
وبالله تعالى نستعين ، هو حسبنا ، عليه توكلّـنا ، وعليه فليتوكـّل المتوكـّلون الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 09/04/2010 عدد القراء: 26018
أضف تعليقك على الموضوع
|