شدُّ الدّرباس على تصريحات كوندليزا رايس
حامد بن عبدالله العلي
إذا القوم قالوا : من فتى لمهمّة ؟ *** تَدَربَسَ باقي الرَّيقِ فخمُ المناكب
لو أن ذات سوار لطمتني !
في حديث لكونداليزا رايس مؤخرا على صفحات الفاينانشال تايمز البريطانية صرحت أن النضال من أجل القيم الأمريكية يجب أن لا يتوقف عند الإسلام ، وأن أمريكا قوة تحريرية ، وأنها تريد تحرير العالم الإسلامي بعد الفراغ من الملف العراقي ، وأن القليل من الدول في التاريخ كانت في مثل هذا الموقع من التفوق العسكري ، ولهذا يجب أن يستثمر لتوفير محيط آمين تزدهر فيه القيم الأمريكية.
لماذا لم تعد أمريكا تخفي نواياها في العالم العربي والإسلامي ، وما هو مشروعها الكبير الذي تريد أن تطلقه لتحرير العالم الإسلامي بعد الانتهاء من الملف العراقي ؟!
أما الجواب على السؤال الأول فلم يعد يجهله أحد .
خلا لك الجوّ فبيضي وصفّري ونقّـري ما شئت أن تنقـّري
فلنتجاوز الإجابة عليه إذاً ، فالسؤال الثاني هو الأهم :
المشروع الكبير يتكون من هذا الثالوث :
تسليع الإنسان ، وتسليخ القيم ، وتسليح العالم .
ليست ثمة غيره ، ولم توّلد الحضارة الغربية العلمانية المعاصرة سواه أصلا .
أما تسليع الإنسان فالمقصود به تحويله إلى سلعة .. إلى وحدة اقتصادية ، فالمجتمعات وفق العلمانية الغربية المعاصرة ليست بشرا ، وإنما هي عبارة عن وحدات قادرة على الإنتاج ، والاستهلاك، والبيع ، والشراء ، والتجمعات البشرية المعاصرة ، ليست سوى مجموعة من المحلات والسوبر ماركات والفنادق والمصانع ، والناس وحدات إنتاجية استهلاكية ، والأقاليم في أنحاء الأرض مخازن تحت الأرض لمصادر الطاقة .
ثم أي شيء يحول الإنسان إلى وحدة تجارية لا حرج فيه ولاغبار عليه ، بل هو الغاية النهائية ، والعلة الغائية ، لكل حركة في الوجود الإنساني .
وحتى لو كان تحويله إلى سلعة بطريق النظر إلى ( تشييء) جسده ، كان بها ونعمت ، أعني النظر إلى جسده على أنه مجرد (شيء) للمتعة ، مثل تجارة البغاء التي تحول الإنسان إلى قطعة تجارية ، إما استهلاكية فيشتري رؤية الجنس ، أو سماعه ، أو ممارسته ، أو إنتاجية فيعطي المتعة الجنسية ، كنوع من إدارة العمل الاقتصادي ، ولهذا استحدث لهذه التجارة اسم جديد ليضفي عليها نوع احترام إذ كانت مجرد وسيلة تجارية للكسب وهذا الاسم هو (sex workers) ، ثم نشر الغرب هذه التجارة في العالم كله ، وحول تسويق الفاحشة والزنى إلى إدارة أعمال تدر المليارات .
وأما تسليخ القيم ، فالمقصود به سلخ القيم الروحية ، وتضييق مجالاتها الإنسانية ، باعتبار أن الإنسان مادة طبيعية ، والطبيعة لا يوجد فيها غيبيات بل تحوي داخلها كل القوانين التي تسيرها ، فلا معنى لقيم غييبة أو دينية هنا .
وأما تسليح العالم ، فالمقصود به تدجيج العالم بالسلاح المهلك المبيد للإنسانية ، وملأ بحاره ومحيطاته بحاملات الطائرات ، والسفن الحربية ، والصواريخ النووية التي تحملها الغواصات ، والصواريخ ذات الرؤوس النووية العابرة للقارات ، والقنابل العملاقة ذات الحمم المهلكة .
ونشر القواعد العسكرية ، في كل أنحاء العالم ، لاسيما في البقاع التي تحوي مخازن الطاقة كالنفط ، وتركيع وإرهاب الشعوب بالتهديد المستمر ، بالقوة الهائلة التدميرية الشاملة ، ثم الصعود إلى الفضاء والتفكير بتسليح الغلاف الجوي في مشروع حرب النجوم .
وأنفاق مئات المليارات على نشر هذا التسليح الهائل المخيف المرعب في جميع أنحاء العالم ، والقادر على الإبادة الجماعية ، وإيثار ذلك على إطعام مئات الملايين الذين يموتون جوعا أو يعيشون تحت خط الفقر في العالم الثالث البائس.
هذا هو الثالوث العصري الذي يبشر به الغرب العالم العربي والإسلامي ، والذي ينوي أن يجعله الناموس المهيمن بعد الانتهاء من الملف العراقي ، والذي قالت عنه رايس : إن مشروعنا التحرري لا ينبغي أن يقف عند حدود الإسلام .
ولو تفكرت في الحروف التي تختلف بين هذه الكلمات الثلاث ( تسليع ، تسليخ ، تسليح ) لوجدتها حروفا تطلق عند إرادة التألم والنبذ ولفظ الشيء غير المرغوب فيه إع .. إخ .. إح ، فتأمّل هذه المناسبة العجيبة !
ولاتحسبنّ أنّ هذه الدعوة المادية العالمية التي يبشر بها الغرب التائه بدعة جديدة ، بل هي سمة واضحة لكل دعوة تتنكب هداية الإسلام ، ولهذا قال الله تعالى في أوائل ما أنزل في العهد المكيّ ، عائبا آنذاك على الجاهلية الماديّة ، مبيّنا ما يمتاز به الإسلام من إعلاء القيم الإنسانية ، وتكريم الإنسان : ( كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولاتحاضّون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث أكلا لمّا ، وتحبّون المال حبّا جمّا ) وتأمّل قوله تعالى ( قال ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ) ، فهي جاهلية قديمة حديثة ، كافرة بالله واليوم الآخر ، موليّةً وجهها إلى الحياة الدنيا وملذاتها ، فهي معبودها الذي تقاتل من أجله قاتلها الله .
كما يأتي في ردف هذه الثالوث اللاديني المادي ، الثالوث الصليبي ، يبشر الناس بدين الشرك ، دين الأحبار والرهبان الذين يكنزون الذهب و الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب إليهم ، وتأمل أيضا هذه المناسبة العجيبة ، وكيف انجذب لصوص العلمانية المادية المعاصرة يبحثون عن الذهب ليسرقوه في أنحاء الأرض ، ليعبدوه ، إلى إخوانهم من عبدة الصليب الذين وصفهم الله تعالى بما تقدم ، وصدق من قال :
وشبه الشيء منجذب إليه *** وأشبهنا بدنيانا الطغام .
فهذه يا كونداليزا رايس حقيقتكم ، لم تعد خافية على أحد ، لا قيم لكم فاصمتوا ، وإنما أنتم لصوص ترهبون الناس وتقتلونهم لتسرقوا .