مفاهيم سياسيـّة يجب أن تصحَّح !
حامد بن عبدالله العلي
لاريب أنَّ وصولَ التيار الإسلامي إلى ذروة السنام السياسي في عدة دول ، وتسيُّدَه المشهد السياسي فيها ، فرض على الفضاء الإعلامي ، حوارات تعـجُّ بها وسائل الإعلام من ( الآي فون ) الصغير ، إلى المحافل الثقافية المتنوّعة في العالم العربي ، مرورا بالشاشة الفضية .
تعـجُّ بالحديث عن علاقة الإسلام بالدولة ، في إطار أوسع يتناول طبيعة النظام السياسي الإسلامي ، وموقفه من مصطلحات قد غدت وثيقة الصلة بالتعاطي السياسي في طول العالم ، وعرضه ، لاتكاد يخلو منها لسان ، أو تغيب عن جنان !
وهذا بيان للخطوط الرئيسة في النظام السياسي الإسلامي ، توضـّح موقفه من تلك المصطلحات ، وإذ لايسع المقام لحشد الدلائل عليها _ لاسيما وقد سبق ذكرها في مقالات ، وفتاوى ، كثيرة سابقة _ فسنتكفي بإجمالها هنا :
النظام السياسي الإسلامي ، ينظر إلى مصطلح ( الديمقراطية) ، إلى أنه قد أصبح لـه بالاستعمال العرفي الواسـع ، معنيان :
أحدهما : ثقافة غربية تابعة لهوية الغرب ، وتسعى لتحقيق أهدافه .
والمعنى الثاني : وسائل ، وآليات ، ونُظم ، من شأنها أن تحسِّن أداء الدولة ، وتكفَل الحقوق ، وتصون الحريات المشروعة .
وهي بالمعنى الأول تتضَّمن ما يناقض الإسلام _ يستثنى ما يشاركنا الغرب فيه من المفاهيم الحقّة _ وأما بالمعنى الثاني فلها حكم سائر الوسائل ، والنظم ، والأصل فيها الإباحة.
في النظام السياسي الإسلامي ( الدولة الدينية ) مصطلح غربي ، يُقصد به حكم رجال الدين بقداسة يستمدُّونها من الربّ مباشرة ـ مثل ولاية الفقه من جهة ، وجماعة ( متلازمة الإنبطاحية) من جهة أخـرى !! ـ فتجعلهم هذه القداسة فوق المساءلة ، إما تنظيـراً ، أو تطبيقـا !!
وهذا المصطلح ، بهذا المعنى يناقض النظام السياسي الإسلامي ، فالنظام السياسي الإسلامي يجعل السلطة للأمّة ، ولكن بما أنها أمّـة إسلاميّة فمرجعها _ بطبيعة الحال _ وثقافتها ، ستكون إسلاميـّة ، وأما من البشر فلا أحـد فيه فوق المساءلة .
النظام السياسي الإسلامي لايعترف ـ لا نظريـّا ولا عمليـّا ـ بعصمة الحاكم ، ولا بحصانتِهِ من المساءَلة ، ولا بقصـْر مساءَلته على السريّة ، فكلُّ ذلكَ من وضعِ الأنظمة المستبدة ، لتحمي ظلمها ، وإستبدادها ، فحسب
الإسلام لايعترف بقصْر الفتوى على مفتٍ ، أو مفتين تعيّنهُم السلطة ، وهذا أيضا من بدع الأنظمة المستبدة ، لكي توظـِّف الدين لأطماعها ، وتسخّره لإضفاء الشرعية على جورها ، وظلمها .
الدولة المدنية لا تعارض الإسلام ، بل تعارض الدولة البوليسية ، والإسلام يقيم دولة مدنيَّة ، ويحارب الدولة البوليسية ،
وأما معنى الدولة البوليسية ، فهي التي يكون للسلطة فيها جهاز سـرِّي ، فوق المساءلة ، مطلق اليد في إنتهاك الحقوق ، والحريّات ، تباح له كلُّ الوسائل المحرمة ، لصالح بقاء ذوي السلطة مسيطرين على النظام على الدوام ،
وغالبا يتضخَّم هذا الجهاز ، حتى يتحكَّـم في الشؤون العامة ، والخاصة من وراء ستار ، لاسيما تلك التي تؤثـِّر ، أو يُتوقـَّع أن تؤثـّر على مصالح السلطة المستبدَّة.
والنظام السياسي الإسلامي ، قـد شـُرع لحفظ الحقوق ، وإقامة العدل ، وكرامة الإنسان ، ويحظـر ويحارب كلّ أشكال الإنتهكات للحقوق ، والتعدّي على الكرامة.
النظام السياسي الإسلامي يحارب الإستبداد ، ولايعترف بالتوريث ، ولم يكن إقراره _ نظريا _ في التاريخ إلاَّ من باب الضرورة ، وبغض النضـر عن سلامة هذا التخريج ، فإنما كان يمارس عمليـّا بقوّة الاستبداد ، لا بدلائل الشريعة الصحيحة .
النظام السياسي الإسلامي يفتح باب وسائل التطوير الحديثة لإدارة الدولة ، والعملية السياسية فيها ، ويشجـّع على إستجـلاب النظم المستجدّة في هذا الشأن ، مالم تعارض نصَّا شرعيـا ،
ويجعل ذلك كلَّه من قبيل المباح ، بل قد يكون من الواجب إن لم يتم إلاّ به حفظ حقوق الأمـّة ، ويُدخل الإسلام ذلك في قاعدة الوسائل لها حكم المقاصـد .
النظام السياسي الإسلامي يضـع بيد الشعب كلَّ السلطات اللازمة للجـمِ الإستبداد السياسي ، إذ هو ينظر إليه بصفته كارثيـّا على الأمة ، وتلك السلطات أصيلة بيد الشعب من الرقابة ، إلى العزل ، والإستبدال ، مرورا بالمحاسبة .
ولهذا يجعل العقد الذي يحدد علاقات المؤسسات السياسية بالشعب _ وهو الدستور _ لازما ، وهـو أعظـم لاجـم للإستبداد ، وضامن لحقوق الشعب.
النظام السياسي الإسلامي لايقيم دولة تتدخـَّل في أسرار الناس ، وخصوصيّاتهـم ، ويشجِّع حتى المعترف بذنبه في هذا الخصوص على الستر ، ويرشده إلى ترك التعرض للعقوبة ، ولا يسنُّ قوانين ملزمة إلاّ في القطعيـَّات المجمع عليها ، ويترك ما اختلف في الناس لاختلاف مذاهبهم حتى لو كانت خلاف قول الغالب الأكثر، أو المعهود في عرف بلد ، وله مرجعيّة في الشريعة .
النظام السياسي الإسلامي يرتكز على فكرة أن أنجـح قانون لمكافحة الجريمة ، هو إقامة المجتمع الذي تسوده العدالة ، وتتوفر فيه الحقوق كاملـة ، ويربـَّى فيه الفرد على الكرامة ، والفضائـل ، وتكون فيه السلطة قدوةً
ولهذا فهو يجعل القوانين الجزائية المستمدة من الشريعة في عقوبة الجناة ، فرعا على هذه الفكرة ، ومتأخرة عنها رتبة هنـا.
النظام السياسي الإسلامي يُعطـي الأولوية لحفظ الهويـّة ، ولإقامة العدل بصرامة ، أوَّلا على السلطة ، ثم الشعب ، ولتوفير حقوق الأفراد كاملة لمستحقيها ، وعلى رأسها حقّ العيشِ الكريم ، ولحماية الأمّـة ، والضرورة الملحة معتبرة في التقديم ، والتأخير .
وهـو في هذا الإطـار ، لايشغل الأمـَّة بخلاف الأولويـات عنها ، ويؤجَّل ما من شأنه أن يُحدِث ذلك إلى أن تتهيـّأ الظروف .
النظام السياسي الإسلامي يتطلَّع _ بل هذا من صميم عقيدته _ إلى أهداف الحضارة الإسلامية العظمى ، في توحيد الأمـَّة ، ونشر رسالتها العالمية ، وتحقيق تفوُّقها الحضاري الأممي ، لكنَّه يصل إليها عبـر مراحل ، لا تقفز على حقوق الشعوب ، ولا تصادر كرامتها ، ولا تستلب حقَّها في إدارة نفسها ، إذ هذه هي أهـم معالم تحقيق تلك الأهداف الحضارية .
النظام السياسي الإسلامي يحمي الأقليّات ، وحقوقها بما فيها الدينية ، ويعترف بحقها في الإحتفاظ بخصوصياتها ، وتميـّزها .
النظام السياسي الإسلامي يضع نصبَ عينيه تربية أفـراد الأمـّة على معاني العزّة ، والكرامة ، والمشاركة الكاملـة في الإرتقاء بالأمَّة سياسيـّا ، ومعرفيّا ، وحياتيـّا ، على جميع المستويات ، ويسن القوانين التي تكفل بقاء هذه المفاهيم حيـَّة في الأمَّـة .
النظام السياسي الإسلامي يسـنّ ، ويقيـم مؤسسات المجتمع المدني التي تمكِّن الشعب من التعبير عن رأيه ، والإحتجاج بحريـّة ضد الظلم ، ويعترف بحقّ الشعب بوسائل التغيير السلمية ، كالمظاهرات ، وتسيير المواكب ، وتنظيم الإعتصامات ، والإضرابات في إطار النظم التي سنَّتها الأمَّـة لنفسها ، ليحفظ الشعب حقوقه ، ويدفع عن نفسه الظلـم .
كما يعترف بحقّ المعارضة السياسية النابعة من ضمير الأمة ، إذ هي تحسِّن أداء السلطة ، وتطوّر مؤسسات المجتمع السياسية ، وتحيّي الفكر السياسي البنّاء ، وتشكّل ضمانا يمنع الإستبداد.
النظام السياسي الإسلامي يرحِّب بالتنوُّع ، والتعدّدية ، بشرط أن تكون داخل هويّة الأمّـة ،
وهـو يضع ما كان خارج هويّتها في إطار الحوار الحضاري الهادف لجذب الآخر لرقيّ الحضارة الإسلاميّة الساميّة .
النظام السياسي الإسلامي مع ذلك يجعل تحريـر الأمة من كلّ إستعلاءٍ أجنبيّ عليها ، من أعظـم أهدافه ، ويرى كلَّ أشكال التدخـُّل ، وحالات الإختراق الأجنبي ، خطـاً أحمـر يهدّد كيان الأمـّة .
وهو يفرق بين الإستعلاء ، و التدخل ، والإختراق ، وبين التواصل الحضاريِّ البنّـاء الذي يخدم مصالح الأمـة .
النظام السياسي الإسلامي يجعل سرّ النجاح للأمـّة ، على جميع الأصعدة ، إنمـا يكمن في تمثُّل هذه القيم الإسلامية المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي في القيـادة السياسية أكثر من غيرها ،
وإقتناعها بها أعظم من سواها ، وأنها تحمل على عاتقها تحقيق هذه القيم في الواقع السياسي للأمـّة .
فإن كان المشهد كذلك ، فالحال سليم ، والأمـّة بخيـر ، والآمال متحققـّة ، والمستقبل زاهر بإذن الله تعالى .
وإلاّ فيجـب على الأمـّة أن تسعى لصنع هذه المعادلة فيها بكلّ الوسائل المتاحة.
والإسلام يجعل إقامة هذا المفاهيم التي ترتقي بالأمة الإسلامية ، وتمكّنها من أداء رسالتها داخليا ، وخارجيا ، وتظهـر حضارة الإسلام في أوج تألّقها ، مما يستدعي تفوُّقه العالمي ، فدخول الناس فيه ، وتحقق أهدافه العالمية العظـمى .
يجعل ذلك من أعظـم أركان الدين العظيمة ، ومن أصول الإسلام ، والإيمان .
ولاريب أنّ إشتغال كثير من المهتمّين بالشؤون الدينية بجزئيـّات _ بينها وبين هذه الأصول في المكانة الدينية بونٌ شاسع _ وإشغال الأمـَّة بها ، إنما سببه إلهاء سلطات الإستبداد ، للفكر الإسلامي بهذه الإهتمامات الدينية الثانوية عمّا ينهض الأمّة ، ويعيد لها عـزَّتها ، فيفقد الإستبدادُ شهواتـِه ، وتسقط أطماعُه ، وتتلاشى سلطتُه !
ولو كان الأمر بيدي لجعلت هذه المفاهيم في العقيدة السياسية الإسلامية ، تُدرَّس لطلاب العلوم الشرعية ، مع تدريبهم على إدارة المشهد السياسي من الحوارات إلى المعارضة ، مرورا بدورات تنظيم المظاهرات ، ووسائل الإحتجاج السلمي.
لكي يقودوا رسالة إصلاح شاملة تبدأ بالأهمّ ، وترتقي بهم إلى مستويات أعلـى مما هـم فيه ، تليـق برسالة الفكر الإسلامي لقيادة الشعوب .
بدل أن يشتغلوا بمعارك جانبيّة ، وقضايا جزئيّة ، وأمور فرعيّة ، وتحرقهم السلطة في صراعات تمسك خيوطها بيدها ، وتصبُّ في النهاية في أهدف الإستبداد !!
إذ لانهوض للأمـَّة إلاّ بحشـد طاقات شعوبها في بوتقة نظامٍ سياسيِّ ينبثق من إرادتها ، ويعبـّر عن ضميرها ، ويُعنـى بإعلائها .
وهذا لايتحقق إلاّ بثورة تبدأ من تصحيح الفكر ، وتنتهي بالإطاحة بأنظمة الحكم على غرار إعصار الربيع العربـي المبارك .
والله ولي التوفيق ، وهو حسبنا ، عليه توكلنا ، و عليه فليتوكـل المتوكـلون . الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 25/01/2012 عدد القراء: 54676
أضف تعليقك على الموضوع
|