حتى لا يسموا أحداث الشرق الأوسط بأسمائها... ضغوط هائلة على الصحافيين الأمريكيين من صحفهم ومن حكومتهم!

 

نشر 22 فبراير 2006م


المستعمرات أصبحت مستوطنات ثم أحياء والجدار أصبح سياجاً

• صحافيو الحرب العالمية الثانية كانوا أصدق منا في نقل الصورة الحقيقية للحدث

• لعبة الألفاظ والمصطلحات خطيرة وتقلب الحقائق في أذهان الجمهور

بقلم: روبرت فيسك

كانت أول مرة أعرف فيها حجم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الصحافيون الأمريكيون في الشرق الأوسط حين كنت في وداع أحد الزملاء من مراسلي صحيفة بوسطن غلوب قبل عدة سنوات وعبرت عن حزني لمغادرته المنطقة التي كان من الواضح أنه كان يستمتع بالعمل فيها وقال لي إن بإمكاني أن أوفر بعض الأحزان من أجل شخص آخر، وأن المتعة الوحيدة من المغادرة أنه لن يتعيّن عليه بعد اليوم تغيير الحقائق حتى تناسب مزاج قراء الصحيفة

وقال لي ذلك الزميل "لقد اعتدت أن أطلق كلمة "الجناح اليميني" حزب الليكود، لكن مسؤولي الصحيفة طلبوا مني عدم استخدام هذا المصطلح لأن عددا من قرائنا اعترضوا عليه" فسألته عن المصطلح الذي يستخدمه الآن، قال "لم أعد أستخدم مصطلح: جناح يميني أبداً"

لقد أدركت أن المقصود بهؤلاء "القراء" هم أصدقاء إسرائيل لكني أدركت أيضا أن الليكود تحت حكم بنيامين نتانياهو لا يقل يمينية عما كان عليه في أي وقت مضى

هذه مجرد قمة جبل الجليد الخاص بالمصطلحات التي اعتمدتها الصحافة الأمريكية بشأن الصراع في الشرق الأوسط فالمستوطنات اليهودية غير الشرعية المخصصة لليهود فقط على الأراضي العربية هي "مستعمرات" حقيقية، وكنا نسميها كذلك، ولا أستطيع تحديد النقطة التي بدأنا نطلق فيها اسم "مستوطنات" على هذه المستعمرات، ولكني أتذكر اللحظة التي بدأنا فيها قبل حوالي عامين باستبدال كلمة "مستوطنات" بكلمة "أحياء يهودية"، بل وأحياناً نطلق عليها اسم "نقاط متقدمة"!


حائط برلين


وبالمثل، فقد ثم تخفيف كلمة الأراضي الفلسطينية "المحتلة" في الكثير من تقارير الإعلام الأمريكي الى أراض "متنازع عليها"، وقد أصدر وزير الخارجية الأمريكي (السابق) كولين باول في عام 2001 تعليماته للسفارات الأمريكية في الشرق الأوسط بأن تشير الى الضفة الغربية باعتبارها أراضي "مُتنازعا عليها" وليست "محتلة"

ثم جاءت مسألة "الجدار" وهو الحاجز الإسمنتي الضخم الذي يهدف - وفقاً للسلطات الإسرائيلية - لمنع الانتحاريين الفلسطنيين من قتل الأبرياء من الإسرائيليين ويبدو أنه قد ثم إحراز بعض النجاح في تحقيق هذا الهدف، ولكن إسرائيل لم تبن الجدار على طول خطوط عام 1967، وسار في عمق الأراضي العربي ومع ذلك، يطلق عليه الصحافيون اسم "سياج" وليس جدار، أو "الحاجز الأمني" كما تفضل إسرائيل أن يُطلق عليه وقد أبلغنا الإسرائيليون، أنه في بعض الأجزاء، فإن هذا الحاجز ليس جدارا على الإطلاق، ولذلك لا يمكننا أن نسميّه كذلك على الرغم من أشبه بالأفعى الملتوية من الإسمنت والحديد التي تشق طريقها شرقي القدس ويرتفع أعلى من حائط برلين

ويبدو تأثير هذا اللعب بالمصطلحات واضح جدا فإذا كانت الأراضي الفلسطينية غير محتلة، بل إنها جزء من نزاع قانوني يمكن حله في المحاكم أو حول طاولة مستديرة من النقاش العادي، فإنه إذا ألقى طفل فلسطيني حجراً على جندي إسرائيلي، فإنه يقوم بعمل لا أخلاقي

وبالتأكيد، ليست هناك حاجة للاحتجاج على بناء "سياج" أو "حاجز أمني"، وهي كلمات تذكر بالسياج الذي يُبنى حول حديقة أو البوابة على مدخل مجمّع سكني

إن قيام الفلسطينيين بالاعتراض على أي من هذه الأعمال الجليلة يؤدي الى وصمهم بأنهم أناس أشرار إننا ندينهم من خلال هذا التلاعب بالألفاظ

إننا نتبع هذه القواعد غير المكتوبة في أماكن أخرى من منطقة الشرق الأوسط فقد استخدم الصحافيون الأمريكيون، بصورة متكررة، كلمات المسؤولين الأمريكيين في الأيام الأولى من بدء التمرد في العراق، بالإشارة الى من يقفون وراء الهجمات على القوات الأمريكية بأنهم "متمردون" أو "إرهابيون" أو أنهم من "فلول" البعث، لقد التزم الصحافيون، بما يشبه الطاعة العمياء، بالألفاظ والمصطلحات التي استخدمها رئيس سلطة التحالف الموقتة السابق في العراق بول بريمر

وفي تلك الأثناء، ظلت شبكات التلفزة الأمريكية تصوّر الحرب في العراق بأنها دون ضحايا أو أو أهوال، وأحجمت عن نقل صور أشلاء الجثت التي قطعّها القصف الجوي في الصحراء ونهشتها الكلاب لقد حرص مسؤولو هذه الشبكات في نيويورك ولندن كثيراً على "أحاسيس" المشاهدين، ولذلك اختاروا عدم نشر صور "عُهر الموت" (الذي هو الحرب في النهاية) أو الانتقاص من "شرف" أولئك الذين قتلناهم للتو

لقد جعلت هذه التغطية التلفزيونية "العفيفة"، من السهل كسب التأييد لهذه الحرب، وأصبح الصحافيون متواطئين منذ زمن بعيد مع الحكومات في جعل الحرب والموت أكثر قبولاً في نظر المشاهدين وهكذا أصبحت الصحافة التلفزيونية أداة مميتة في الحرب

لقد كنا في الأيام الخوالي، نؤمن بأن الصحافيين يجب أن "ينقلوا الحدث كما هو" فاقرأ - على سبيل المثال - الصحافة العظيمة إبان الحرب العالمية الثانية وسوف تكتشف ما المقصود بذلك فالصحافيون الكبار الذين غطوا تلك الأحداث المأساوية لم يتلاعبوا بالألفاظ أو يلتفوا على الحقائق بحجة أن القراء أو المشاهدين يريدون رواية أخرى للأحداث

إذن دعونا نسمي المستعمرة مستعمرة، ودعونا نطلق صفة "محتلة" على الأراضي المحتلة، ودعونا نصف الجدار بأنه جدار وربما كان التعبير عن حقيقة الحرب، من خلال إظهار أنها ليست حربا فدعونا ألاّ نقيس الحرب بمعيار النصر أو الهزيمة، بل بما تمثله من فشل وإخفاق على المستوى الإنساني

" عن: لوس أنجلوس تايمز "




التاريخ: 25/12/2006