هنري كيسنجر : الأصولية الإسلامية ناهضة وهي أحد الثورات الثلاث التي تجري في العالم |
|
كتب: عريب الرنتاوي ـ في مقالته المثيرة للجدل، أشار هنري كيسنجر إلى ثورات ثلاث تجري في الوقت ذاته، في أنحاء مختلفة من العالم: (1) أوروبا، حيث تتخلى الدولة القومية أو الدولة / الأمة عن بعض وظائفها وصلاحياتها السيادية لصالح إطار "فوق – دولاتي" أو "Supra – State"...(2) في العالم العربي والإسلامي حيث تفعل الدولة القومية، أو ما يسمى الدولة القومية، الشيء ذاته، مرغمة وغير طائعة كما في الحالة الأوروبية، وتحت ضغط لاعب غير "دولاتي" أو"Non – State Actor"، يتمثل في الأصولية الإسلامية الناهضة التي لا تعترف بشرعية الدولة ولا القانون الدولي...(3) الثورة الثالثة، وتتمثل في انتقال مركز ثقل القرار الدولي من "الأطلسي" إلى "الهادي" و"الهندي"، مع بروز كل من الصين والهند واليابان كأقطاب دولية كبرى، اقتصاديا وسكانيا وعسكريا.
تخلي "الدولة القومية"عن بعض وظائفها السيادية لصالح الهوية الجمعية الجديدة للاتحاد الأوروبي، ليس ثمرة حربين كونيتين أو خلاصتهما فحسب، بل هو تعبير عن نضج مجتمعاتها وتجذّر آليات تطورها الديمقراطي كذلك، لكأن "الرأسمالية" الأوروبية تعيد الاعتبار لبعض نظريات كارل ماركس عن انتفاء الحاجة للدولة في الطور الأعلى من الشيوعية، ونبوءته القائلة باضمحلال الدولة في نهاية المطاف، أو لكأن هنري كيسنجر الذي قارع الشيوعية طويلا، يعيد إحياء تراث بعض آبائها المؤسسين.
أما اضمحلال دور الدولة في بعض بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم الإسلامي، فمرده كما قال كيسنجر في مقالته إياها، يعود إلى اندراج نشأة هذه الدولة في سياق توزيع الغنائم بين المنتصرين في الحرب العالميتين الأولى والثانية، من دون مراعاة لحدود القوميات والإثنيات واللغات والطوائف والأديان، الأمر الذي أفضى إلى ولادة مخلوقات مشوّهة في الغالب، يصعب أن يطلق على الكثير منها تسمية: دولة الأمة، أو "Nation – State".
ونضيف إلى "عوامل النشأة" التي تحدث عنها كيسنجر، عوامل أخرى تتصل بإخفاق "الدولة الحديثة" في إنجاز وظائفها الطبيعية الأساسية، من إنجاز الاستقلال الحقيقي وصيانته، إلى تحقيق التنمية البشرية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الشاملة، الأمر الذي وفّر تربة خصبة لانتشار عوامل اضمحلال الدولة، والعودة بمجتمعاتنا إلى مرحلة "ما قبل الدولة"، واضطرار شعوبنا إلى الاحتماء بهوياتها الفرعية ووحداتها الاجتماعية – السكانية الأصغر، والاصطفاف خلف أحزاب ومليشيات وفصائل وكتائب وجيوش ترفع شتى الرايات إلا راية "الدولة / الأمة".
قائمة الدولة العربية والإسلامية، الفاشلة أو الآخذة في التآكل طويلة نسبيا، وهي مرشحة لاستضافة المزيد من أسماء الدول، على أننا لن نجازف بتعدادها في هذه المقالة، حتى لا "نعكر صفو علاقتنا مع دولة شقيقة أو صديقة"، فيلقى مقالنا اليوم، مصير مقالة الأمس.
أوروبا تعبر الحدود الضيقة لدولة الأمة إلى فضاء الاندماج "القاري" الأرحب والأوسع، والعالم العربي ينكفئ من حدود الدولة القومية الحلم، إلى الدولة القطرية الآيلة للفشل والاضمحلال، إلى حضيض الطوائف والمذاهب والإثنيات والقبائل والحمائل،...أوروبا تجتاز ثورات المعارف والعلوم والاتصالات والمواصلات، ونحن غارقون في طوفان الأمية وبناء الحدران والأسيّجة وشتى أنواع الرقابات...أوروبا تجتاز الحداثة إلى ما بعدها ونحن نتوزع على العمائم وفقا لألوانها وأحجامها، ولا نختلف على جنس الملائكة فحسب، بل ونريق دماءنا أيضا للبرهنة على أن زمننا هو "زمن الظهور" وأن المهدي المنتظر سيقرع أبوابنا قريبا