ايديولوجيا النظام الأميركي وعقيدة إحياء الضربات الوقائية
ماجد الشيخ الحياة - 24/03/06
يوماً بعد يوم تتأكد مقولة ان الولايات المتحدة تفتقد الى وجود فكر سياسي يقوم على قواعد نظرية فكرية سياسية واضحة لبناء علاقات دولية سليمة. اذ لم يشهد للنظام الاميركي انه سعى الى اقامة مثل هذه القواعد، أو جرّب ان يبني لذاته مفاهيم قاعدية للسياسة، بل قامت سياساته على «مبادئ القوة» التي اقترنت بأسماء رؤساء او اشخاص ما كانوا ليصلوا الى السلطة لولا دعم الاحتكارات والشركات فوق القومية، وهي عملية لا علاقة لها بأي فكر سياسي، وانما تقع في صميم لغة الايديولوجيا والمصالح المباشرة، وما تقوم به من أدوار في خدمة مصالح أربابها الاقتصادية والاجتماعية تاركة شؤون السياسة والقيادة لأصحاب «المبادئ العسكرية» في أغلبها. وهي «مبادئ» يسندها الاستخدام المفرط للقوة العسكرية والتدخلات الخارجية، كسياسة اضحت هي السياسة في عرف سادة البيت الابيض و»السادة الكبار» الذين يقوم على خدمتهم وخدمة مصالحهم، في ما اصبح يسمى «المصالح القومية العليا للولايات المتحدة»رائدة استخدام سياسة القوة بديلاً من قوة السياسة، ورائدة استخدام اقتصاد القوة القاهرة بديلاً من قوة الاقتصاد.
هكذا بات «الامن القومي» الاميركي يعتمد في «استراتيجيته الدفاعية» على تكريس منطق التدخلات الخارجية كسياسة هجومية، في محاولة لبناء مرتكزات عالم جديد، قوامه الفوضى في ظل سياسة الوحدنة التي لا تقبل أي آخر، كما هي حال أي امبراطورية عبر التاريخ: سياسة عولمة واحدية تنفي الشركاء والحلفاء من قاموس تطبيقها لسياساتها، ولا تستبقي لهؤلاء وأولئك سوى الفتات، وشكليات المغانم المستباحة، على امتداد القارات ارضاً وشعوباً وأسواقاً وثروات.
ومن جملة التغييرات المهمة في العقيدة العسكرية الاميركية، وفي ضوء التطورات المهمة على صعيد تدخلاتها الخارجية منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، انها أعادت فعلياً انتاج «الريغانية» بمواصفات «بوشية» جديدة، تتوافق ومعطيات الوضع الدولي الجديد الناشئ بعد الحرب الباردة. فمن الحروب الوقائية الى الحروب الاستباقية تمتد سلسلة من حلقات التدخلات الخارجية للقوات الاميركية، استندت كلها الى ما ورد في القانون الذي جرى تبنيه عام 1951 في شأن ما يسمى «الأمن المتبادل» من ان «الارهاب عمل شرعي كأداة لسياسة الدولة». وعضّد من وجود هذا القانون، صدور الامر السري الرقم 138 الذي وقع عليه رونالد ريغان في نيسان (أبريل) 1984، والذي وسّع «القاعدة القانونية» لشن الولايات المتحدة حروباً سرية في انحاء العالم.
ولهذا رسخت الادارات الاميركية المتعاقبة على الصعيد الدولي في حروبها الوقائية القديمة، وفي حروبها الاستباقية الحالية، صورة «الشرطي العالمي» المتخفف من أي مرجعية شرعية او قانونية. وكونها المعتدى عليها في ايلول 2001، توقعت الادارة الاميركية مساندة دولية اكبر وإجماعاً أوسع، الا ان العكس شكل فشلها الرئيس. وهذا ما يحاوله الرئيس جورج بوش الآن في غضون ولايته الثانية، لكسب الدعم المتعدد الاطراف لامكان استعمال استباقي للقوة (ضد سورية او ايران او كوريا الشمالية). وما لم يتم اقناع أكبر مجموعة من الدول الحليفة، فمن الصعب المضي في التلويح دائماً باستخدام القوة، وتم هذا على الاقل إبان الحرب العالمية الثانية وفي سنوات الحرب الباردة، حين حصلت واشنطن على قبول دولي لاستعمال القوة العسكرية في حرب الخليج الاولى (1991)، وفي البوسنة والهرسك (1995)، وفي كوسوفو (1999)، وفي افغانستان (2001)، فيما مثّل العراق الاستثناء لا القاعدة في هذا السياق.
ولئن كانت بنى الاستبداد السلطوية لم تنشأ في فراغ المجتمعات العربية فقط، فانها كذلك لم تكن نبتاً شيطانياً لتكوينات فئوية طائفية ومذهبية، وانقسامات عرقية وفوارق اجتماعية هائلة لا يمكن ان يخلو منها أي مجتمع، فإن هذه البنى وجدت سندها الاساس في دعم الخارج – الاستعماري او الانتدابي – لها، واخيراً دعم الولايات المتحدة.
وكان استخدام واشنطن للنخب السياسية او العسكرية او المالية – وعلى الدوام – ينحو منحى الاستخدام الوظائفي لتحقيق غاياتها. وشكل العراق النموذج الاقصى لاستخدام مثل هذه النخب في ظل تغييب نموذج المواطنة، ما يعني ان الاحتلال ليس من مهماته مطلقاً تنمية نموذج انساني لمواطنة حقيقية، بقدر ما يساهم ونخبه في اعادة انتاج نموذج الرعايا، وتكريس مرجعياتها الدينية والعشائرية والقبلية، والزج بها في أتون حروب الهيمنة.
وهذا هو المؤشر الابرز لفشل «ديموقراطية الاحتلال» والتي تؤكد اليوم ان الولايات المتحدة ما كان يهمها من الديموقراطية سوى الشكل لتثبيت نخبها في السلطة، فلا هي معنية بحرية الشعوب، ولا هي تهتم كثيراً للاصلاح، الا لجهة ما تحققه لها آليات كهذه من التفاف على مطالب التغيير الحقيقية.
وتظهر تطورات الوضع العراقي ان ليس من مصلحة واشنطن ارساء صيغة وطنية لعراق وطني يتجاوز حال التفتيت، اضافة الى ان فشلها في ارساء «نموذج العراق» الذي ارادت تعميمه بات يؤشر الى خسارة الرهان في شأن نشر «الديموقراطية»، بخاصة ان فريق الارهاب المعولم بات احد الادوات الرئيسة العاملة على تفتيت المجتمعات العربية الى جانب قوى الغزو والاحتلال، لذا لم يعد مشروع الاحتلال الاميركي للعراق قابلاً للنمذجة، وكف النموذج العراقي عن ان يكون ملهماً لأحد
ومع حلول الذكرى الثالثة للاحتلال الاميركي للعراق، لم يستطع الرئيس بوش الا ان يستعيد الذكرى احتفالياً باحيائه عقيدته للضربات «الوقائية» وإدراجها في صلب السياسة «الدفاعية» الاميركية ضمن استراتيجيته الجديدة للأمن القومي، وذلك في وثيقة صدرت أخيراً تعد استكمالاً للوثيقة المماثلة الصادرة عام 2002، والتي دعت الى ضربات وقائية ضد من سمتها «الدول المعادية او الجماعات الارهابية».
واذ ما زال الاسوأ متوقعاً في قادم الايام، سواء في العراق او حتى داخل الولايات المتحدة، فإن من المؤكد ان يستمر المحافظون الجدد في استعمال ادلجاتهم الخاصة التي حولت الادارة الحاكمة ادارة شعاراتية تجيد استخدام الايديولوجيا على حساب السياسة، في وقت غيّر كثيرون من ايديولوجياتهم او استبدلوها بجديدة اكثر محافظة، وفي وقت بدأ تمترس جديد خلف ايديولوجيا دينية، تعيش في فسطاط اوهامها في رؤيتها لذاتها وللعالم، وانغلاقها على تلك الذات النرجسية، وهي ايديولوجيا وجدت انعكاسها في مرآة المتسيّدين الجدد لعالم ما بعد الحرب الباردة، في نزوعهم الامبراطوري للهيمنة، ولو على حساب فقراء الاميركيين، الذين لم يجدوا من يحميهم من غضب الطبيعة، ومن غضب السياسات البيروقراطية، لادارة حسمت أمرها في التوجه نحو الخارج ونحو استئناف تدخلاتها العسكرية الخارجية.
هكذا فيما كانت الولايات المتحدة تذهب الى احياء عقائدها العسكرية، على خلفية فقدانها زمام المبادرة على الصعيد الخارجي، وانفلات الوضع الداخلي وانكشافه على مزيد من الفضائح والانقسامات السياسية، في شأن حروبها الخارجية وسياستها الداخلية المحافظة، كان الرئيس بوش يعد نفسه لخوض حملة علاقات عامة – جديدة - هدفها محاولة حجب الشمس بغربال ايديولوجيا النظام الاميركي المليء بالثقوب، في محاولة محمومة لتغطية الارتكابات التي تمارسها الولايات المتحدة على امتداد العالم. وما يجري في غوانتانامو وأبو غريب وقاعدة غوام وغيرها من السجون والمعتقلات الثابتة والمتنقلة، ليس سوى رأس جبل الجليد، أما خفي فهو الاعظم من سياسات الحروب الوقائية والاستباقية التي سبق لمحاكمات نورمبرغ ان اعلنت رفضها لها كعقيدة عسكرية، بدءاً من «مبدأ مونرو» عام 1955 وصولاً الى «مبدأ بوش» الذي أعاد التأكيد عليه قبل ايام، مروراً بخطط عسكريي هذه الادارة التي كان آخرها «خطة الحرب الطويلة» كبديل لخطط الحرب الباردة، اذ يقدر «خبراء البنتاغون» ان تستمر هذه الحرب 40 عاماً اخرى بذريعة «تحرير الارض من الارهاب ومنع امتلاك اسلحة دمار شامل».
******
حرب العراق اوقفت نهاية التاريخ
فرانسيس فوكوياما: طلاق بائن مع المحافظين الجدد
كتاب فوكاياما الجديد يبلغ بالمعركة بين رفاق الامس اوجها، والسبب حرب العراق وتداعياتها على اميركا.
ميدل ايست اونلاين
نيويورك - من عامر فردان
اصدر المفكر الاميركي المعروف فرانسيس فوكوياما مطلع هذا الشهر كتابه الجديد "اميركا على مفترق طرق: الديمقراطية والقوة وتركة المحافظين الجدد" ليسجل اوج المعركة التي دارت رحاها منذ اكثر من عامين مع اصدقاء الامس.
ويأتي كتاب فوكوياما الصادر عن جامعة "ييل" الاميركية المرموقة والذي يأتي تفصيلا لمحاضرته المشهورة التى القاها فى الجامعة عام 2005 حول السياسة الخارجية الاميركية واخطاء رؤى المحافظين الجدد وخاصة ازاء التعامل مع الملف العراقي بمثابة اعلان القطيعة التامة في المواقف مع تيار كان فوكوياما الى عهد قريب يعتبر نفسه احد المحسوبين عليه والمدافعين عنه والمنظرين له.
ويؤكد فوكوياما الذي اشتهر قبل اكثر من عشر سنوات بكتابه ونظريته الشهيرة والمثيرة للجدل "نهاية التاريخ" في مقدمة كتابه الجديد خلفيته الفكرية والسياسية كاحد المقربين او المحسوبين على تيار المحافظين الجدد حيث يشير الى الافكار المشتركة بينه وبين بول وولفويتز على سبيل المثال والذي عمل معه سابقا مرتين اولا في وكالة مراقبة ونزع التسلح الاميركية ولاحقا في وزارة الخارجية.
ويذكر فوكوياما القراء بعمله مع وولفويتز ايضا فى مؤسسة "راند" وهي احدى اهم دور الدراسات الاستراتيجية الاميركية كما يذكر بتلمذته على يد ألان بلوم الذي كان بدوره تلميذا لليو شتراوس احد اهم من اقتفى تيار المحافظين الجدد فلسفته وافكاره ابان عقد الخمسينات من القرن الماضي.
ويوضح فوكوياما الذي دأب على الكتابة الدورية في اهم منشورات تيار المحافظين الجدد كمجلات "ناشيونال انترست" و"ببليك انترست" و"كومنتري" كيفية وصوله الى نقطة اللاعودة مع المحافظين الجدد ورؤيتهم ازاء السياسة الخارجية الاميركية وخاصة ما يتعلق بملف العراق.
ويشير الى تلك المحاضرة التي اقيمت في فبراير/شباط عام 2004 في معهد "اميركان انتربرايز" وهو احد مراكز الدراسات الاستراتيجية المحسوبة بقوة على المحافظين الجدد حيث القى تشارلز كروثامر صاحب العمود الشهير في صحيفة نيويورك تايمز محاضرة وصف فيها حرب اميركا في العراق بانها "نجاح منقطع النظير".
ويقول فوكوياما "لم افهم لماذا كل من حولي في تلك المحاضرة كانوا يصفقون لخطاب كروثامر في ظل عدم نجاحنا في العثور على اسلحة دمار شامل والوقوع في حرب مع المتمردين ووجود انفسنا معزولين عن العالم بسبب هذا النوع من الاستراتيجية الاحادية التي يدافع عنها كروثامر".
ويقول فوكوياما "خلصت الى ان المحافظين الجدد - رموزا وافكارا - يدورون حول شيء لا استطيع بعد الان ان اؤيده او اقبله بتاتا".
ويقدم فوكوياما في الفصل الثاني من كتابه عرضا تاريخيا مختصرا ومعمقا في نفس الوقت حول مسيرة تيار المحافظين الجدد منذ البدايات الاولى لنشوءه ابان ثلاثينيات القرن الماضي عندما ظهرت جماعة "سيتي كوليدج اوف نيويورك" والتي ضمت شبانا ناشطين كانوا مزيجا من التروتسكيين والستالينيين والاشتراكيين الاجتماعيين وغيرهم مرورا بعقد الخمسينيات وتنظيرات ليو شتراوس وجماعة جامعة شيكاغو وتأثيرهم على جيل قادم من المحافظين الجدد انتهاء بالرموز الحالية للتيار ومفكريهم كروبرت كاغان ووليم كريستول وغيرهم.
وبعد ان يوضح فوكاياما العديد من الاخطاء التي ارتكبتها ادارة الرئيس بوش الموجهة من قبل المحافظين الجدد على حد تعبيره في العراق وافغانستان يقترح وصفة تمزج بين افكار المدارس التقليدية التي قادت السياسة الخارجية الاميركية على مدى عقود ويسمي تلك الوصفة بـ"الواقعية الويلسونية" نسبة الى الرئيس الاميركي الاسبق وودرو ويلسون (1913 – 1921).
ويقول فوكوياما ان تيار المحافظين الجدد هو احد اربعة مدارس وتيارات تشترك حاليا في طرح بدائل ورؤى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الاميركية وهي اضافة الى المحافظين الجدد تيار "الواقعيين" الذين يسيرون تقليديا ضمن منهج هنري كيسنجر الذي يولي مسالة القوة اعتبارا مع التقليل من اهمية الظروف الداخلية لدول العالم ومسائل حقوق الانسان فيها.
ويشير الى ان التيار الثالث يكمن في "الليبراليين الدوليين" الذين يهمشون استخدام القوة العسكرية ويدفعون باتجاه تنشيط وتعزيز المؤسسات الدولية والعمل الدولي الجماعي مع مراعاة المصالح الاميركية بالتاكيد.
اما التيار الرابع والاخير فهو "الجاكسونيون الوطنيون" - نسبة الى الرئيس الاميركي الاسبق اندرو جاكسون (1829 - 1837) - الذين يميلون الى التضييق من قضايا الامن وارتباطاتها الدولية مع التقليل من اهمية العمل الدولي وتفاعلاته والدفع باتجاه نوع من العزلة والمحلية.
ويرى فوكوياما ان وصفته "الواقعية الويلسونية" تأتي كحل وسط مؤكدا ضرورة الاستفادة من نقاط القوة في كل الرؤى والمدارس الموجودة مشيرا الى ان الاعتماد الكلي على القوة العسكرية كما يدعي المحافظون الجدد امرا خاطئا وفي نفس الوقت يؤكد على خط المدرسة الليبرالية الداعية الى تهميش الخيارات العسكرية وثانويتها.
ويضيف ان الاقرار بقصور المؤسسات الدولية وعدم فاعليتها واخطائها امرا مطلوبا لكن تهميش العمل الدولي ومؤسساته بما فيها الامم المتحدة امرا غير مقبولا ايضا.
ولعل اهمية كتاب فوكاياما الجديد تكمن في نقطتين اولهما انه يعكس تحولا جذريا في افكار فوكوياما وثانيا انها تشكل ضربة اضافية للمحافظين الجدد في ظل جريان الاحداث في العراق بطريقة تختلف عن تلك التي رسموها وتوقعوها في البدايات.
ولا يزال فوكوياما ينشط في طرح بدائله ورؤاه المناقضة لتلك التي يبشر بها المحافظون الجدد وخاصة في المجلة الجديدة التي يرأس تحريرها "اميركان انترست" في الوقت الذي لا يزال المحافظون الجدد يواصلون نقد افكار فوكوياما والتقليل من اهميتها.(كونا) التاريخ: 25/12/2006 عدد الزوار: 5845 |