حكـم التحاكم إلى المحاكم الوضعية ، واللجوء إلى جمعيات حقوق الإنسان ، لرفع الظلم واسترداد الحـق وتحقيق العدالة؟ |
|
فضيلة الشيخ سمعنا أن أحـد المجاهدين فك الله أسره كان طلب اللجوء السياسي ووضع محام ، فبعض المجاهيل أنكروا وقالوا كيف يتحاكم إلى محاكم وضعيّة ، فما هو حكـم الشريعة في التحاكم إلى جهات ليست شرعية لكن المتحاكم مضطر ، وهـو يرى أنه يمكنه الحصول على حقه أو دفع الضرر عن نفسه، بذلك
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم :
نعم يجوز للمسلم إن رجا أن يدفع الظلم عن نفسه ، ويرفع الضرر ، ويسترد حقوقه ، أن يتحاكم إلى جهات لا تحكم بالشريعة ، وأن يستفيد من أعراف وضعها غير المسلمين إن كانت توافق الحـق ، وتحقق العدالة ، إن لم يجـد محاكم أو جهات تحكم بالشريعـة يسترد بها حقه ، ويدفع عن نفسه الأذى والضرر .
دل على ذلك الكتاب ، والسنة ، وفعل الصحابة ، و الإعتبار الصحيح .
قال الحق سبحانه : ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)
قال الطبري في التفسير : يقول تعالى ذكره : قال يوسف للذي علم أنه ناج من صاحبيه اللذين استعبراه الرؤيا : ( اذكرني عند ربك ) يقول : اذكرني عند سيدك وأخبره بمظلمتي ، وأني محبوس بغير جرم .
وقال ابن كثيررحمه الله : في تفسير هذه الآية : ( ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج ، قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم ـ لئلا يشعره أنه المصلوب ـ قال له ( اذكرني عند ربك ) يقول : اذكر قصتي عند ربك ، وهو الملك ، فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك ، وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن ،
هذا هو الصواب أن الضمير في قوله ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) عائد على الناجي ، كما قاله مجاهد ، ومحمد بن إسحاق ، وغير واحد ويقال : إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام ... وأسند ابن جرير ههنا حديثا فقال : حدثنا ابن وكيع حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ) وهذا الحديث ضعيف جدا ، لأن سفيان بن وكيع ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضا ، وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم
ومما يدل على رجحان عود الضمير في ( ربه ) على ساقي الملك ، قوله تعالى ( وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمّـة ) .
وفي الآية دليل على جواز أن يرفع المسلم مظلمته لغير مسلم إن رجـا أنه يعدل في حكمـه ، فملك مصـر ذلك الوقت ، لم يكن مسلما ، ولايعرف أحكام شريعة الله تعالى أصـلا .
وقد طلب يوسف عليه السلام ، صدور حكم ببراءته تارة أخرى عندما طلبه الملك ليخرج من سجنـه ، فأبى أن يخرج من سجنه إلاّ بعدما يسمع الملك القضية ، ويصدر حكمه في يوسف عليه السلام ، فعقد الملك مجلس حكم ، قبـل الدعوى ، واستمع إلى الشهـود ، وأصدر الحكم بالبراءة .
كما قال تعالى : (قال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)
قال ابن كثير رحمه الله : (لما جاءه الرسول بذلك ، امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ،ورعيته براءة ساحته ، ونزاهة عرضه ، مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز ، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه ، بل كان ظلما ، وعدوانا ، فقال : ( ارجع إلى ربك ) الآية ، وقد وردت السنة بمدحه على ذلك ، والتنبيه على فضله ، وشرفه ، وعلو قدره ، وصبره صلوات الله وسلامه عليه ، ففي المسند ، والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ،قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قــال ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) الآية ، ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ).
قال الشوكاني في فتح القدير : (قال يوسف للرسول ارجع إلى ربك ، أي سيدك ، فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، أمره بأن يسأل الملك عن ذلك ، وتوقف عن الخروج من السجن ، ولم يسارع إلى إجابة الملك ليظهر للناس براءة ساحته ، ونزاهة جانبه ، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلما بينا ) .
وقد ورد في السنة ما يدل على الجواز أيضا ، وذلك في قصة هجرة الصحابة إلى الحبشة ، فعـن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : ( لما ضاقت علينا مكة ،وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفتنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء ،والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، وعمه لا يصل إليه شيء مما يكره ، ما ينال أصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ، ومخرجا مما أنتم فيه ، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا ، ونزلنا بخير دار إلى خير جار أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما) خرجه البيهقي في السنن ، وفي الدلائل من طريق ابن إسحاق .
وظاهرٌ من هذا الخبـر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علـّل أمرهم بالهجرة بكون ملك الحبشة لايظلم عنده أحـد ، وليس بكونه مسلما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنّ الشريعة لم تنزل عامّة أحكامها بعد ، ولم يكن النجاشي أصحمة رضي الله عنه ، قد أسلم يومئذ ، ومعلومٌ أن المقصود هـو أنّ ملك الحبشة ، ينصفهم إذا تحاكموا إليه ، ويردّ إليهم حقّهـم إن لجئوا إليه ،
وإلاّ لم يكن لهجرتهم إليه فائدة ، فدل على جواز أن يتحاكـم المسلم إلى من يردّ إليه مظلمته ، ويدفع عنه الضرر ، والأذى ، لايشترط أن يكون المتحاكم إليه مسلما منقادا للشريعة ، لكن يشترط أن يوافق الشريعة في العدل الذي يطلبه المتحاكِـم ، ويحكم به المتحاكم إليه .
وإنّما حرم الله تعالى التحاكم إلى الطاغوت فيما يقضي بغيـر العدل مخالفا حكم الله تعالى ، ولهذا علّق التحريم بالإرادة ، كما قال ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) ، إشارة إلى أن المتحاكم إنما يبتغي حكم الطاغوت لأنه يدين له ، ولهذا قال ( وقد أمروا أن يكفروا به ) ، لا حكم الله ، ولهذا عقَّب بقوله ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) .
فلاتتناول الآية من يطلب ما يوافق حكم الله ببراءته ، ودفع الظلم عنه ، وهو كافر بالطاغوت الحاكم بغير شريعة الله تعالى غير مريد لـه ، بـل هـو منقاد إلى الكتاب والسنة .
وهذا كمـا يجـوز للمسلم أن يستفيد من الأعراف التي عليها الناس ، يتحاكمون إليها ، وتحكم حياتهم ، مما لايخالف أحكام الله تعالى ، بل توافقها ، وإن كانوا يحكمون بها بينهم ، لا على أنها شريعة الله تعالى ، ولـه أن يطلـب الدخول في حكمها ، كما إستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من نظام الجوار الذي كانت العرب في الجاهلية تحكم به ، وتلتزمه ،
فقد روى البخاري عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أسارى بدر ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر المطعم بن عدي على جواره في مكة ، منقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، من الطائـف .
كما قال ابن كثير في البداية النهاية : ( وقد ذكر الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق ، فطلب منه أن يجيره بمكة ، فقال : إن حليف قريش لا يجير على صميمها ، ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره ، فقال إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي ، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال : نعم قل له فليأت ، فذهب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة ، فلما أصبح خرج معه ، هو وبنوه ستة أو سبعة ، متقلدي السيوف جميعا فدخلوا المسجد ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف ، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف ، فاقبل أبو سفيان إلى مطعم ، فقال : أمجير ، أو تابع ، قال لا بل مجير ، قال : إذا لا تخفر فجلس معه ، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه ، فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو سفيان إلى مجلسه ، قال : فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير .
فقال حسان بن ثابت والله لأرثينه فقال فيما قال :
فلو كان مجد مخلد اليوم واحد
من الناس نحي مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا
عبادك ما لبى محل وأحرمــا
فلو سئلت عنه معــد بأسرها
وقحطان أو باقي بقيــة جرهما
لقالوا هو الموفي بخفــرة جاره
وذمته يوما إذا مــا تجشمــا
وما تطلع الشمس المنيـرة فوقهم
على مثله فيهم أعــز وأكرما
إباء إذا يأبى وأليــن شيمــة
وأنوم عن جار إذا الليــل أظلما.
قلت ـ القول لابن كثير : ( ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أسارني بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتناء لوهبتهم له) .
وفي الصحيح أن ابن الدغنة أجار الصديق رضي الله عنه .
كما يدل على الجواز القاعدة الفقهية التي تقول ( الضرر يزال ) ، أخذا من حديث ( لاضرر ولا ضـرار ) خرجه أحمد والبيهقي .
ومعلوم أن لجوء المسلم إلى ما يزيل عنه الضرر ، داخل في هذه القاعـدة، ولا معنى لأن تحرم الشريعـة على المسلم زوال الضرر ، وتحقق العـدل ، من غير مفسـدة .
ويستفاد من هذه الأدلة كلها :
أنـّه يجوز للمسلم أن يلجأ إلى بلاد غير المسلمين مضطرا ، ويحتكم إلى قوانينهم التي تدرء عنه ظلم بعض الأنظمة وتحميه من بطشهم ، فيما يسمى اللجوء السياسي ، كما يجوز لملايين المسلمين هناك أن يتحاكموا إلى قوانين تلك البلاد ، في رد المظالم ، وحماية الحقوق ، ورد الضرر والأذى عن أنفسهم وأموالهم ، كما يجوز للأسير أن يتحاكم إلى قوانين تخلصه من ظلم الأسر ، ويجوز أن لمن وقع عليه ظلم أن يلجأ إلى هيئات حقوق الإنسان ، مستفيدا من قوانينها التي تنصفه ، وتحميه من بطش الظلمة ، كما يجوز تأسيس هذه اللجان الحقوقية ، حتى لو كانت تستمد قوتها من بلاد غير إسلامية ، فيما يوافق العدل ، ويدفع الضرر ، ويرد الحقوق ، ويزيل الظـلم .
وعمل المحامين في كل ذلك مباح مادام يحقق العـدل ، ويرفع الظلم ، ويرد الحقـوق.
فإن قيــل : فإن في إجازة ذلك دعمـا وإقرارا لهذه المحاكم التي لاتحكم بالشريعة ، وإظهار موافقة لها ،
فالجواب : أننـا ذكرنا أن الجواز مشروط بعدم وجود محاكم أو جهات شرعـيّة لها قوّة يمكنهـا بها أن تنصف المسلم ، وتردّ إليه حقّـه ، كما كان حال نبي الله يوسف عليه السلام ، والصحابة في هجرتهم إلى الحبشة ، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم في جوار مشرك ، وكذا بعض أصحابه .
ولاريب أن هذا القــول بالجواز أليق بسماحة ويسـر الشريعة التي جاءت برفع الحرج ، ودرء المشاق ، والعنت عن الناس ، وهو الموافق لمقاصدها وروحها ،
والقول بالتحريم المطـلق مناف للشريعة ، مناقض لواقع من يفتي بـه ، ربمـا من حيث لايشعـر ، ذلك أنّ كثيراً من العلاقات بين الدول تحكمها أعراف لا تحتكم إلى شريعـة الله بلا ريب ، ولا يجد المسلم بـدّا من الاستفادة منها ، حتى في سفره ـ على سبيل المثال ـ إذ يطلب الإذن له بالمرور عبـر الحدود بناء على قوانين التنقّـل بين الدول ، كما أنّ كل من يـريد الإنتماء إلى مايسمى المواطنة ، أو حتـى الحصول على ( فيزا ) إقامة في دولة ، إنما يطـلب ضمنا سريان قوانين الدولة عليه ، أو فيما يحكم نظام الإقامة ، بـل في سائـر الأحكام مدة إقامته في تلك البـلاد ، ومثل هذا كثـير جدا ، في كثير من شؤون الحيـاة ، ويزداد كلَّما تقارب العالم ، فلو كان هذا بإطلاقه تحاكم إلى الطاغوت ، لم يسـلم منـه أحـدٌ !
وإنما لم يكـن كذلك ، لأنّ مريد ما ذكـرناه آنفـا ، إنما يطـلب ما يوافق الشرع ، ويعطيه حقوقه ، دون ما يخالف ذلك ، كما يفعل المتحاكم إلى غير المسلمين فـي المظالم إن لم يجـد من يحكمه لـه بشريعة الإسلام .
والله أعلـم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الكاتب: زائر
التاريخ: 25/05/2007