مشاركة الحركة الإسلامية في السياسة ؟

 

السؤال:

فضيلة الشيخ متى يجوز للحركة الإسلامية أن تشارك في السياسة ؟

***********************

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ

علاقة الحركة الإسلامية بالسياسة ينبغي أن ينظر إليها من ناحيتيـــن :

الناحية الأولى: ناحية شمول منهجها العام، للفكر السياسي الإسلامي، ومواقفها تجاه الأحداث السياسية.

الناحية الثانية: كونها جزءا من العمل السياسي، ودخولها معتركه في البيئة التي توجد فيها.

والناحية الأولى، لا مجال فيها لمناقشة إشكالية العلاقة بين الدعوي والسياسي أصلا، لأن الإسلام -على مستوى الفكر- لا يقبل بحال الفصل بينهما، فالدعوة هي تبليغ الدين الإسلامي، والسعي لتمكينه في واقع الحياة، وفي الأول نزل قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) وفي الثاني: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) وعقب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على الصلاة والزكاة، لبيان شمولية الإسلام، ورفضه القاطع للفصل بين العبادات الشخصية، وحكم الإسلام لمنحى الحياة كلها،

فهذه قضية مفروغ منها، فالإسلام دين حيوي، يفقد حيويته بمجرد الفصل بينه وبين الحياة، فهو كما يعبر عنه المفكرون الإسلاميون المعاصرون، يحول الحياة بامتثال تعاليم الإسلام كلها إلى صلاة في محراب الكون، كما الصلاة في محراب المسجد.

وانما النقاش من الناحية الثانية، وهي أن تكون الحركة الإسلامية جزءا من العمل السياسي، فتمارسه حركيا في البيئة التي تنشط فيها.

وفي هذه الناحية تبرز عدة مشكلات عويصة أمام الحركة الإسلامية:

أحدها : وهي أعظمها واخطرها ، أن العمل السياسي أحيانا يتطلب التنازل عن العقيدة ، بل الوقوع في نواقض التوحيد ، كإباحة التشريع لغير الله تعالى ، والإقرار بأحكام الجاهلية الطاغوتية ، وقد وقعت بعض الحركات فيما هو أشنع ، وهي هذه الطامة الكبرى ، عندما ظنت أنها ترتكب أخف الضررين عندما تكون جزءا من احتلال كافر لبلاد الإسلام ، أو مؤيدة له ، فأي ضرر بعد ضرر مشاركة الكفار في كفرهم وفسادهم في الأرض ؟!

الثانية : ممارسة العمل في ساحة تنافس حزبي، تستلزم المناورات السياسية، وعقد الصفقات التي قد تكون في أحيان كثيرة، غير متفقة مع أخلاقيات الدعوة الإسلامية، وبالتالي قد تفقد الحركة أعظم رصيد لها وهو الرمزية الأخلاقية، اعني السمعة التي هي كما يقال رأس مال الحر، فكيف بمن يدعو الناس إلى الفضيلة والصدق والأمانة؟

والتجارب الواقعية شهدت بوضوح، تعرض الحركة الإسلامية لهزات كبيرة، بسبب اضطرارها لاستخدام نهج المناورات في الصراع السياسي، وعقد الصفقات التي قد تتضمن إخلاف الوعود، ونقض العهود، والكذب، ومعلوم أن الجمهور يأخذ انطباعا عاما في الغالب، لا يفهم التبريرات ذات التفاصيل، فان فهمها ينساها بسرعة، ويبقى الانطباع العام الذي ارتسم في ذهنه عن حركة سياسية ما، بسبب مواقفها في التجاذب السياسي.

وتكمن الخطورة هنا في أن الجمهور نفسه الذي هو موضع خطاب الحركة الإسلامية، ينظر بسلبية بالغة لتجربة بعض الحركات الإسلامية في الصراع السياسي، ثم انه بطبيعة الحال، لا يمكنه -وله العذر في ذلك- أن يميز بين الخطاب الدعوي والنظري -الذي يسمعه من خطيب الجمعة الذي رشح نفسه لخوض الانتخابات مثلا- والمواقف السياسية، لا سيما ان كانت الرموز واحدة، فالرموز التي تقدم الخطاب الدعوي، هي التي تخوض الصراع السياسي، واحيانا تفقد الحركة الإسلامية، صدقية خطابها، وسلامة موقفها في آن واحد، بسبب هذا الخلط، فلا ترجع حتى بخفي حنين!

الثالثة: اضطرار الحركة الإسلامية إلى القبول بتنازلات في العمل السياسي -تعدها ضرورة للبقاء في اللعبة السياسية- تعارض ثوابت إسلامية في الخطاب الدعوي، فيحصل بسبب ذلك التباس كبير وخطير في الساحة التي تتعاطى معها الحركة، بل كثيرا ما يحصل ذلك في قواعد الحركة ذاتها.

وعندما تلجأ الحركة إلى تخريج شرعي لهذه التنازلات، في محاولة لابقاء الالتئام بين ثوابت الخطاب، وواقع العمل السياسي، تنظر ذلك على أساس (ارتكاب أخف الضررين)، ولكنها لا تلبث بعد مساحة من التنازلات أن تجد نفسها، قد قابلت ذلك الضرر الأكبر، باقترافها أضرار ا كثيرة، حتى أفقدت الناس القدرة على التمييز بين الأضرار التي اقترفتها، والضرر الذي كانت تريد ازالته بتنظيرها، ثم انه ما زال باقيا، بل انه أحيانا يصبح أكبر مما كان!!

الرابعة : أن الحركة الإسلامية ربما عانت من قصور قدرتها الاستيعابية على مستوى القيادات، وكوادر الدعم، والمتطلبات المادية والتنظيمية لخوض المعترك السياسي، قصورها عن احتواء الدعوي والسياسي معا، وكثيرا ما تفقد التوازن، فتضطر الى ترجيح جانب على جانب، فان لجأت إلى ترجيح السياسي فهي مخاطرة، فقد تعرض نفسها لخسارة كبيرة، لأنها قد تؤدي إلى خسران الجانبين السياسي والدعوى.

الخامسة : أن رموز الحركة الإسلامية، ستتعرض نفسها، لاغراءات العمل السياسي، وفي مستنقعاته غرقت حيتان كثيرة، لا سيما إن خاضت هذا المعترك، خوض الهواة، ومعلوم أن خطاب الدعوة الإسلامية الذي يدعو إلى إيثار الآخرة، ومعارضة الهوى، والالتزام الأخلاقي، والثبات على المبدأ، كل ذلك يتهاوى أحيانا أمام مغريات الجاه، والمال، والطمع في النفوذ على المستوى الشخصي،

وقد تعرضت الحركة الإسلامية في الكويت، لنماذج من هذا الصنف المتساقط في وحل العمل السياسي، لأن هذا الصنف، كثيرا ما يفرض نفسه لا على أساس من التأهيل، والدربة، والتدرج إلى القيادة، بل على أساس استثمار معطيات مغلوطة في واقع الساحة السياسية، وعلى سبيل المثال، الانتخابات الفرعية القبلية، التي أبرزت من المحسوبين على الحركة الإسلامية من تهاووا بسرعة، والقى ذلك بظلال في غاية السوء على سمعة الدعوة الإسلامية.

ومثال آخر: الأحزاب السياسية الإسلامية حديثة التكوين التي لم تنضج بعد في الفكر والتنظيم والتربية القيادية، وتصر على سرعة خوض العمل السياسي، وقد يكتب لها نصيب فيه، في مرحلة المراهقة السياسية، فتتعرض هي، وتعرض الساحة الإسلامية، لأنها محسوبة عليها لكوارث سياسية.

ولهذا فالواجب أن تتريث الحركة الإسلامية قبل أن تقرر دخولها اللعبة السياسية، حتى تستكمل أربع نواح استراتيجية هامة:

الأولى: القدرة على الفصل بين جهازها الدعوي، وجهازها السياسي، وعلى استيعاب الساحتين معا، لئلا تجد الحركة الإسلامية نفسها مضطرة أن تزج بقيادات غير مؤهلة تربويا وإيمانيا، وفكريا، وسياسيا، وغير متدرجة في سلم الإعداد التنظيم، عبر خطوات الاستيعاب العام، فالتجنيد الجاد، فالتأهيل القيادي الانتقائي، ثم أخيرا القيادة.

لأنها حين تفعل ذلك، أعني حين تقفز على هذا السلم مدفوعة بالتعطش السياسي لتكثير المكاسب، في خضم المنافسة مع أحزاب إسلامية أخرى، فإنها كالذي يخوض معركة مصيرية بضباط لا يملكون من خبرة الحرب سوى ألقاب ونجوم لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا لوحظت ظاهرة التساقط السياسي لدى بعض التيارات الإسلامية، وأصبحت مضرب المثل في تجربة الحركة الإسلامية في الكويت، والأمثلة واضحة للعيان لا تحتاج إلى إشارة بنان.

الثانية: بلوغ مرحلة النضج السياسي الذي يجعلها على مستوى اللعبة السياسية في بيئتها، قبل الدخول في المعترك السياسي، وهذا يعني أن يكون الجهاز السياسي، كامل التنظيم بما فيه من كوادر مدربة، وقيادات مؤهلة، وتخطيط دقيق، ونظام تقييم.

الثالثة: الاعتماد على تأصيل شرعي ثابت، بعيد عن الترقيع الذي يشبه الحيل الفقهية، ليكون داعما أمينا وصادقا لمواقفها السياسية، لئلا تنقض بمواقفها خطابها الدعوي، فتفرغ رسالتها من مضامينها الإسلامية، ويستوعبها الواقع المنحرف الذي جاءت لتغييره فتصبح جزءا منه، كما نرى ذلك جليا في كثير من مواقف الحركة الإسلامية مؤخرا!

الرابعة: الاستعداد النفسي اللامحدود والمتفاني في تحقيق الأهداف العامة للمشروع الإسلامي، حتى إذا اقتضى الأمر تقديم التنازل عن مكاسب الحزب الخاصة، في سبيل تحقيق تلك الأهداف، يسهل بذلها بطيب نفس.

هذا ولا يحسبن أحد أن هذه الناحية الرابعة، هينة التطبيق، أو يسيرة الأثر، إنها اصعب ما تواجهه الحركة الإسلامية في التعاطي السياسي، وهي كذلك محك يظهر صدقية ادعاء أي حركة في إخلاصها للمشروع الإسلامي.

وكثيرا ما يرى النقاد حركة إسلامية ما، اختزلت أهداف المشروع الإسلامي، في أهداف الحزب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى اختزال هذه الأخيرة، بأهداف شخصية لأولئك الذين يتبوأون القيادة فيها، وذلك كما حصل لبعض الأحزاب القومية العربية، التي اختزلت المشروع القومي، في حزبها فحسب، ثم في قيادة الحزب، ثم تحول الحزب إلى أشبه بالوراثة الملكية، التي هي مستعدة للتفريط بكل المشروع القومي، من أجل الحفاظ على السلطة الموروثة!

إن طبيعة التجاذب السياسي نفسها أحيانا تأتي بهذه الإفرازات، حين تشتبه أهداف المشروع الفكري، بشهوة السلطة والنفوذ، ومتطلبات الأمجاد الشخصية وأحلامها، لا سيما بعد طول المكث على عروش القيادة، وهذا من الأسباب التي من أجلها أمرت الشريعة العلية ألا تعطى الولايات لمن سألها، وورد أنها حينئذ لن يبارك له فيها، بل يوكل إليها، وليت شعري لقد وكل إلى ضعف وجهل، وشهوة، وعجز الإنسان الظلوم، الجهول.

والخلاصة أن الحركة الإسلامية لا يجوز لها أن تشارك في العمل السياسي إن تطلب ذلك التنازل عن الثوابت ، أو المساس بالعقيدة ، أو تبديل الشريعة ، وأن لها أن تنظر في قاعدة ارتكاب أخف الضررين فيما سوى ذلك ، بعد استكمال شروط تحقق هذه القاعدة بعيدا عن حظوظ النفوس ، واستكمال شروط خوض العمل السياسي كما تقدم والله أعلم .

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006