ما رأيك في اللذين يقولون نحن في العهد المكي؟

 

السؤال:

كثيرا ما يتردد قول البعض إن المسلمين اليوم كما لو كانوا في العهد المكي ، فالواجب أن يعترفوا بضعفهم ويكيفوا خطابهم وما يتلاءم مع هذا الوضع ، كما نسمع من يقول إن العالم يتجه إلى الاشتراك الأممي في كل شيء ، ولابد للمسلمين من أن يعرفوا أن طبيعة المرحلة اتقتضي تطوير الخطاب الإسلامي ليقبل التعددية ، والتعايش مع الآخر ، فما ردكم ؟

**************************

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :

لعل هؤلاء اشتبه عليهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فقد قال رحمه الله : " فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى الذيْن أمر الله بهما في أول الأمر وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ، ولا غيرهم جزية وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف ، لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه .

وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه ، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله ، وعلى عهد خلفائه الراشدين ، وكذلك هو إلى قيام الساعة لاتزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ، ينصرون الله ورسوله النصر التام ، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح ، عمّن يُؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فانما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " الصارم المسلول الجزء الثاني 414

فقد ذكر أن المؤمنين إن كانوا مستضعفين ، فلهم أن يعلموا بما نزل من الآيات في العهد المكي في مقابلة أذى الكفار لهم بالصبر وعدم الرد بالقتال ، يريد بذلك أن آيات القتال ليست ناسخة لآيات الصفح ، ولايعني هذا أن الواجب على كل المسلمين في هذا الزمان ، في كل موضع ، أن يعملوا بأحكام العهد المكي ، فهذا ابتداع خطير ، لا يقوله عالم بهذا الدين ، ولم يقله فيما مضى أحد من العلماء ، بل ما عليه علماء المسلمين هو الأخذ بالآخر فالآخر ممّا نزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

ومعلوم بإجماع العلماء أن الكفار إن احتلوا بلدا مسلما وجب على المسلمين أن يقاتلوهم ، حتى يجلوهم عن بلاد الإسلام ، وأنه لا يجوز للمسلمين أن يتخذوا الكافرين أولياء ، ينصرونهم على إخوانهم المسلمين ، ويمكنونهم من الاستعلاء بقوتهم في بلاد الإسلام ، ومن فعل ذلك فهو كافر مرتد .

ولا يحل لأحد أن يخذل المسلمين عن جهاد عدوهم ، أو يزيّن لهم التحاكم إلى طواغيت الكفر ، بحجة أنهم في العهد المكيّ ، ومن يفتي بهذا يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه على الارتداد عن دينه ، فحكمه حكم أمثاله من أهل الردة .

هذا ومن أشد الناس خطرا على الأمة ، هؤلاء المخذّلون عن جهاد المشروع الأمريكي الصليبي ، الذي لم يمــرّ على الأمّة أخطـر منه ، ولا أشد فتكا بدينها منه في تاريخها ، ومع أن هذا المشروع الأمريكي الذي تحمّل وزره المحافظون الجدد المهيمنون على القرار والسياسية الأمريكية إلى أجل لا يعلمه إلى الله ، قد يمضي لأمر قضاه الله وقدره ، وحكمة يعلمها ، فهو ليس هذا بجديد على الأمة ، ولا هي بأوّل هجمة تجتاحها ، وقد مـرّ بالأمّة فترات اجتاحها الأعداء فلم يسقط الجهاد عنها ، وما علمنا من أفتى أنها أصبحت في العهد المكي فلا يحل لها أن تجاهد عدوها !

وغربة الدين مذكورة في نصوص الوحي ، جرت على من قبلنا من الأمم ، وستجري علينا ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنته تحويلا ، وقد قال تعالى " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " ، ذلك أن الله تعالى يمحق الباطل بعدما يمهله ليظهر كل طغيانه كما قال " فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " ، وقال " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ، نسارع لهم في الخيرات ، بل لا يشعرون " ، وقال " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، ولهم عذاب مهين ، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب .. الآيات " .

ثم إنه يا ليت بعض هؤلاء الذين يرددون أننا في العهد المكي ، يلتزمون حقا ما كان فيه من تصميم العقيدة وثبات المواقف ، لقد كان شعار العهد المكي هو الثبات على البراءة من الجاهلية ، وإظهار ذلك ، والصبر على الأذى ، حتى قتل من قتل من الصحابة تحت التعذيب ، لأنهم صدعوا بكفر الجاهلية ، والبراءة التامة منها ، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي ، إن التحالف مع أبي جهل وحزبه ، ومد الجسور معه ، مشاركة حضارية ، وتعايش راق بين الثقافات !!

مع أنه بأبي هو وأمي ، قد عرض عليه ذلك ، عرض عليه أن يعطوه من دنياهم ما أراد ، على أن يتنازل عن عقيدته ، أو يرضى بأن يتعايش دون أن يعلن البراءة ، فأنزل الله تعالى عليه " ودوا لو تدهن فيدهنون " ، وأنزل :" ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات .. الآيات " ، لقد كان العهد المكي عهد " قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون " و" تبت يدا أبي لهب " ، و" مهل الكافرين أمهلهم رويدا " و" فقد أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " ، لقد كان عهد " سفّه أحلامنا ، وشتم آبائنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا .. فقال لهم : لقد جئتم بالذبح " .

والعجب من هؤلاء الذين يردّدون بلا وعي ما يقوله الأعداء ، المخدوعون بغباء ، كيف انطلت عليهم حيلة المشاركة الحضارية ، ومد الجسور مع الثقافة الغربية ؟! ، وكيف خفي عليهم أنهم يتحدثون عن قوة مهيمنة تفرض ثقافتها بالقوة ، ولا تعترف أصلا بحضارتنا ، ولا يروننا سوى بلاد متخلفة ، قد ولدت شعوبها وعلى ظهر كل واحد من أفرادها سرج ، ليمتطيه الرجل الغربي ، وتذكرني بلاهتهم بقول جوزيف أ. ستيغلتز في كتابه خيبات العولمة ص 211:

" كانت روسيا تتلقى تدريبا متسارعا على اقتصاد السوق ،وكنا نحن الأساتذة ، وأي تدريب ! كنا نعلم الروس ، بطريقة مكثفة ، اقتصاد الكتب المدرسية التي تتغنى بحرية السوق ، أمّا ما كان يراه هؤلاء في ممارسات معلميهم ، فهو على العكس ، كان يبتعد بصورة جذريّة عن المثل الأعلى ، كنا نقول لهم إن تحرير التجارة ضروري لنجاح اقتصاد السوق ، غير أنهم عندما حاولوا أن يصدروا الألمونيوم أو الأورانيوم ( ومنتجات أخرى ) ، إلى الولايات المتحدة ، وجدوا الأبواب موصدة " .

ولعمري هذه روسيا ، فكيف بهذه البلاد التي رعت طواغيتها المتسلطة تخلف الشعوب فيها ، وقامت بأداء ما وُكل إليها بأمانة تامّة ، وكان قد وُكل إليها أن تبقي بلادنا الإسلامية ، رهينة الخوف ، والجوع ، والجهل ، والانهزام النفسي ، والرق السياسي ، فأي جسور يتحدث عنها هؤلاء المغرورون .

أفلا يرون كيف تريد أمريكا الصليبيّة أن تحول بلادنا إلى مرتع للتنصير والتخريب الثقافي ، وتعيث فيها فسادا ، وأما المقابل الذي سنحصل عليه ، فليس سوى أن نزيد في استهلاك ما تصدره أمريكا ، تريد أن تتخذ من بلادنا مطيــّة ، لاتزيد على أن تعلف العلف ، الذي تلقيه إليها الشركات الأمريكية العملاقة ، لتوصل بلادهم إلى مزيد من الهيمنة على العالم ، وتمكين الصهاينة من التحكّم في مقدّرات بلاد الإسلام .

وقد رأينا كيف تحولت بلدة خليجية صغيرة هي قطر بعدما ابتلعتها أمريكا، إلى نموذج مصغر للعبث الذي ترمي إليه ، لقد تم بيع أجيال المسلمين في قطر ، إلى شركات أمريكية ترسم مناهج التعليم ، وأمــّا ما سوى ذلك مما يطلق عليه مؤسسات المجتمع المدني ، فقد تمّ توزيعها على من ينوب عن الأمريكيين ، ليشكلوها على وفق الثقافة الأمريكية .

إن هذه الرؤية التي يرددها من يدعو إلى مداهنة المشروع الأمريكي ، ومد اليد إليه ، نابعة من فهم أعوج للشرع ، وإدراك مشوه للواقع ، وهروب من مواجهة الحقيقة ، يمارس به الهارب خداعا لنفسه ، وتغييبا متعمدا لعقله ، مؤثرا السلامة على التضحية في مواجهة الباطل ، وراضيا بالفتات الذي يلقيه إليه الطاغوت يوهمه أو يوهم نفسه أنه به يحقق مصلحة الإسلام ، وهو يهدمه بيده ، كما يفعل الذين رضوا أن يكونوا خدما لبريمر الصليبي في مجلس الدمى الذي نصبه الطاغوت الأمريكي في العراق ، يظنون أنهم بذلك يمدون جسورهم الحضارية ، ولا يدرون أنهم قد حُوّلوا إلى مطايا للصليبية ، يوشك أن تقضي حاجتها عليهم ، ثم تأتي بغيرهم ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم يا مصرف القلوب أصرف قلوبنا إلى طاعتك ، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا والله أعلم .

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006