السائل: زائر التاريخ: 07/04/2009 عدد القراء: 7841 السؤال: فضيلة الشيخ ما رأيك في هذه الطامة الكبرى وهي هدم مساجد كثيرة قد تصل إلى أكثر من مائة مسجد ، وكثيـر منها يصلى فيه المصلون من عشر أو عشرين أوثلاثين سنة وهي في أماكن يحتاج المصلون فيها إلى مسجد ، وليست مبنية قرب مسجد أصلا ، وذلك بحجة أنها غير مرخصة فقط ، ولما قلنا لهم طيب رخصوها ورمموها بدل أن تهدموها ، ولكن لاحياة لمن تنادي ، خاصة وبعض الفرقة المنبطحة أفتت بهدم المساجد حسبنا الله ونعم الوكيل والله المستعان
جواب الشيخ:
الحمد لله الذي أقام بيوته للذَّاكرين ، وأمر بإعمارها بذكره للعابدين الشاكرين ، قال تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجِالٌ لاِتُلْهِيِهِمْ تجِاَرَةٌ وَلاَبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمَا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأبْصَارَ )
وجعل من يسعى في خرابهـا أظلم الظالمين ، كما قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه القائل ( إن الله لينادي يوم القيامة : أين جيراني ، أين جيراني ؟ قال : فتقول الملائكة : ربنا ! ومن ينبغي أن يجاورك ؟ فيقول : أين عمار المساجد ؟ ).
وبعد فإنَّ هدم المساجد ـ إلاَّ لترميمها وتوسيعها وتحسينها ـ من أعظم الجرائم والآثام ، ولا أعلم من تجرأ على هدمها بالصورة التي في السؤال أحـدٌ في تاريخ الإسلام ، ولا حتى في هذا العصر ، إلاَّ الصهاينة فإنهم يفعلون ذلك في فلسطين المحتـلة ، كما قصفوا وهدموا أكثر من عشرة مساجد في غزة في حرب الفرقان التي هُزموا فيها بفضل الله ثم صمود المجاهدين ،
وحتى أهل الإلحاد والشيوعية في أوج طغيانهـم أغلقوا المساجـد ، وتركوها ، ولم يهدموهـا ، وكذلك فعل أتاتورك اللعين.
أمـَّا أن يُعمـد إلى إزالة عددٍ كبير منها بهذه الصورة ، بينما هي معمـورة بالصلاة ، وفي مواضع يحتاج الناس فيها إليها ، وبعضها مضى عليه سنون طويلة ، قد تصل إلى ثلاثين عاما ، تقام فيها الصلوات ، ويذكر فيها الله تعالى ، فإنَّ هذه العظيمة لم تقع في تاريخ أمِّتنا ، ونسأل الله أن لايؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، وأن يجنبنا غضبه ، وشر عقابه آمين.
ومعلوم بإجماع الفقهاء من جميع المذاهب ، أنَّ الأرض ـ والأرض لله تعالى وأحب بقاعها إليه مساجدهـا ـ إذا أوقفت للصلاة ، وصارت مسجداً ، فإنَّ هدمه عدوان على الوقف ، وحينئذٍ فكلُّ ما يقام عليها بعد ذلك ، فهو باطل ، لايجوز الإستفاده منه ، فمن فعل ذلك فهو شريك للمعتدي على وقف الله تعالى.
وقد استثنى العلماء من ذلك بعض الصور ولنذكر ماتيسر منها مستشهدين بأقوال العلماء :
قال ابن رشد الجد (ت255هـ): (إن من بنى مسجداً بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول ، ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر، لأنَّ الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس والمال، لاسيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد أنزل اللـه -تعالى- في ذلك ما أنزل من قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا -إلى قوله- لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)).. فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار ، وتفريق الجماعة ، لا وجهاً من وجوه البر، وجب أن يُحرق ، ويُهدَّم ، ويُترك مطروحاً للزبول ، كما فعل رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الضرار). البيان والتحصيل (1/411)
وقال البهوتي: "ويحرم أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد, إلا لحاجة كضيق الأول ونحوه كخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد،وظاهره (أي المذهب) وإن لم يقصد المضارة" شرح الإقناع (1/545).
وقال ابن القيم "يُهدم المسجد إذا بُني على قبر، كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد، نصَّ على ذلك أحمدُ وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز" زاد المعاد (3/572).
وفيما ورد من الأسئلة على سماحة الشيخ العلامة محمد بن ابراهيم آل الشيخ رحمه الله في زمانه ، سؤال عن هدم مسجد لإقامة مكتبة ، وهذا جوابه :
لايجوز هدم مسجد قائم ولو كان قديما لمجرد أن يبنى مكانه مكتبة عامة، بل لا يجوز بناء مكتبة عامة مكانه لو كان منهدما، وإنما الواجب ترميمه إن كان قديما، وبناء مسجد مكانه إن كان منهدما، ولو ببيع بعضه لإصلاح باقيه، وهذا لأن الأصل في الوقف ألا يباع ولا يوهب ولا يورث؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب لما رغب في أن يتصدق بماله في خيبر « تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره » متفق عليه أ.هـ.
وقال إمام أهل السنة والجماعة ابن تيمية رحمة الله عليه: «كذلك إلابدال لمصلحة راجحة، مثل ان يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه وبيع الأول، فهذا ونحوه جائز عند الإمام احمد وغيره من العلماء، لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بناء غير بنائه الأول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام فقد ثبت في الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة -رضي الله عنها- «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنفضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض وجعلت لها بابين، باباً يدخل الناس منه وباباً يخرج الناس منه»، فلولا المعارض الراجح لكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير بناء الكعبة، فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة الى صورة لأجل المصلحة الراجحة»، مجموعة فتاوى ابن تيمية (31/252، 253).
والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل
|