السائل: زائر التاريخ: 11/02/2010 عدد القراء: 11230 السؤال: هل السلفيون في موريتانيا تابوا ؟!!
جواب الشيخ: سؤال من بلاد المغرب ، لعلماء الدين : قرأت خبر اليوم مفاده أن السلفيين في موريتانيا قد تابوا ، فاستغربت هذا كيف يكون ؟ كما وأسأل أننا لو فرضنا تغير رأي شخص في مسائل الخلاف هل يقال إنه تاب ؟! وسؤال ثالث ما رأيك فمن يقول إن ثمة فرق بين المعطل لشريعة الله ، والمبدل لشريعة الله ، فالأول لايكفر ، والثاني يكفر بشرط أنه يزعم أنه الشريعة المبدلة هي من الله أيضا ، فهل لهذا أصل ، والله يحسن إليك ويرفع قدرك في الدارين آمين
جواب الشيخ :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، وبعد :
فينبغي أولا أن نعرف بمعنى السلف ، و(السلفيين ) ، وكذلك نبين في نبذة مختصرة ، الدعاة إلى النهج السلفي في موريتانيا ، وآثارهم الحميدة على المسلمين عبر العصور ، فنقول وبالله التوفيق :
سلف هذه الأمة هم الصحابة ، والتابعون ، وتابعوهم ، للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس خير ؟ فقال : ( قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) والمقصود من كان في هذه القرون متمسّكا بالكتاب ، والسنة ، والأصول التي أجمع عليه الصحابة ، ولأنَّ عامة من كان في هذه القرون المفضلة ـ بسبب قربهم من نور النبوة ـ على هذا النهج السديد ، والطريق الرشيد ، جاء تفضيلها بوحي العزيز الحميـد.
والسلفيون هم الذين يقتفون هذا النهج ، ويسلكون في هذا الفـج ، ويرجعون إلى منابع الدين الصافي قبل حدوث الفرق الضالة ، والبدع المضلة ، وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة ، ويتبرءون من سبل المبتدعة مثل الخوارج ، والروافض ، والمرجئة ، والجبرية ، والقدرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، والأشعرية ، وسائر من تنكَّب عن صراط السلف الماضين ، والأئمة المرضيين .
وأبرز صفاتهم جعل العقل تابعا للوحي ، متلقيا منه ، خاضعا له ، فطريقتهم كلَّها دائرة على التمسك بالنصوص ، والإستدلال بها ، ولهذا رفضوا التأويل الكلامي ، والذوق الصوفي ، والتعصُّب المذهبي ، لأنَّهـا تصـدُّ عن الإنقياد التام للوحي الذي هو قطب رحى الدين ، وأصل أصول دين الموحدين ، فالتأويل الكلامي طوَّع النصوص لآراء أهل الكلام المذموم التي بنوها على تخرُّصـات عقولهم المريضة بشبهات الفلاسفة ، فصرفوا نصوص الوحي عن دلالاتها بتأويلات باطلة ، وتصرفات متكلِّفة ، عن كلِّ هدى عاطلة ،
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمـه الله واصفا حقيقة مذهبهم : ( إنَّ الاستدلال بالسمع مشروط عند المتكلمين بألاَّ يعارضه قاطعٌ عقلي ، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه ) الفرقان ص 91 ، وهذا مصرح به كتبهم كما في أساس الرازي ، ومواقف الإيجي وغيرهـما .
والذوق الصوفي قدَّم ما يجده الصوفي في نفسه من الوساوس ، والوجـد النفساني ، على هداية الوحي الرباني ،
والمتعصبون للمذاهب جعلوا مشهور المذهب كأنـَّه نص معـصوم ، يؤخـرون خلفـه منطوق النص ، والمفهوم .
وقد دأب السلفيون على مـر العصور ، وتعاقـب الدهور ، متمسّكين بالوحي المنزل ، على حماية عقيدة الإسلام الصافية ، ومحاربة البدع الظاهرة ، والخافية ، فهم قلعة الدين ، وحرز الإسلام الحصين ، وجنـود التوحيـد المجاهدين .
وقد كتبت في هذا مقالا قديما بعنوان ( المجددون ) ذكرت فيه في كلِّ عصر أئمة التجديد الماضين على هذا النهج السديد هنـا
هذا .. ولم يخـل صقع من أصقاع المسلمين من هذه الدعوة المباركة ، أما بلاد شمال أفريقيا بأسرها ، فقـد كانت معروفة بتمسِّكها بالطريقة السلفية ، ومتميّزة بذلك ، كما قال ابن خلدون رحمه الله ( كان أهل المغرب بمعزل عن إتباعهم ـ أي الأشاعرة ـ في التأويل ، وأخذ رأيهم فيه ، إقتـداء بالسلف في ترك التأويل ) العبر 6/226
وكانت دولة المرابطين بقيادة الإمام عبدالله بن ياسين رحمه الله ، على هذا النهج السلفي ، حتى عاث فيها ابن تومرت السفاح فساداً بإدخال مذاهب المتكلمين الرديّة ، مع سائر بدعه .
لكن لم يلـبث الإمام ناصر الدين أبو بكر الشمشوي في القرن الحادي عشر الهجري ، حتى أعاد إلى النهج السلفي علوَّه ، وقوَّته ، في بلاد المغترب ، وأعلن الجهاد لنشر الإسلام في غرب أفريقيا ، وأرسل الجيوش لذلك ، وجاهد على النهج السلفي الخالص ، لمحو آثار الشرك ، والخرافة .
ثم قامت بعد ذلك بمـدة ، دعـوة الشيخ العلامة المجيدري بن حبيب الله كمال الدين ، المتوفى عام 1204هـ ، وهي دعوة سنية سلفية مباركة في موريتانيا ، وكان المجيدري رحمه الله أحـد أربعة هم أكابر علماء شنقيط بأسرها .
وكان من علماء هذه الدعوة المجيدرية المباركة ، العلامة المأمون بن محمد ، الذي رد الردود السلفية القوية على المختار بن بون لما عارض العلامة المجيدري في مسائل العقيدة ،
وكذلك ممـن تأثروا بالعلامة المجيدري ، تلميذه العلامة مولود بن أحمد الجواد .
ثم جاء الإمام الأوحد العلامة الجهبذ الشيخ سيدي باب ، فأظهر الدعوة إلى الطريقة السلفية بقوة ، ونافح عنها بعلمه الغزير ، وفهم العالم النحريـر ، ومن تلاميذه الذين حملوا دعوته من بعده ، الشيخ العلامة محمد بن أبي مدين من أبرز علماء السلفيين في عصره في موريتـانيا بل في المغرب العربي بأسـره ، والعلامة عبد الودود بن عبد الملك رحمه الله ، الشيخ محمد المهابة بين سيدي محمد ، وهو الذي زكى كتابه الشيخ بداه بن البصيري في مسألة الصفات ووافقه عليها ، كما زكاه الذي محمد الشيباني النجمري وقال : ( إنَّ لايختلف عما قاله شيخ الإسلام بن تيمية ).
وأيضا من علماء هذه الدعوة المتأثرين بآثار الشيخ سيدي باب ، الشيخ المختار بن حامد ، وسيدي المختار بن عبدالمالك ، ومحمد الشيباني .
ثم جاء الإمام العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء ، فدعا إلى مثل ما دعا إليه من سبقه من أئمة الدعوة السلفية في موريتانيا ، ومن تلاميذه الشيخ أحمد بن احمد المختار ، ومحمد عبدالله بن الصديق ، ومحمد المختار بن سيدي محمد ، ومحمد بن ماديك ، ومحمد الخضر الناجي ، ومحمد سيدي الحبيب ، والشيخ الحسين بن عبد الرحمن ، ومحمد الأمين بن الحسين ، ومحمد عمر بن حويه ، وسيد محمد ساداتي ، والشيخ التلميد بن محمود ، ومحفوظ بن سيدات ، وغيرهـم كثير .
والشيخ العلامة محمد بن البصيري المشهور بـ ( بداه ) ، أو محمد بداه ، وهو صاحب الكتاب المشهور ( تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لاينافي الإجراء على الظواهر ) ، إذْ بيـَّن فيه أنَّ التفويض هو تفويض الكيفية ، وله كتاب جليل القدر بعنوان ( الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد ) وقد أفحم فيه المتكلمين أيمُّـا إفحـام ، وألجمهم أيمـا إلجـام .، وكتاب ( أسنى المسالك في أنَّ من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك ) ورد فيه على أهل التعصـُّب المذموم ، وله كتاب ( الكتائب الشرعية في صد هجوم القوانين الوضعية ) وله مؤلفات أخرى كثيرة جدا ، وكلها نافعة مباركة ، وهذا الإمام هو حقا من أكابر أئمة الدين ، وهـو من مجددي العصر ، وكان أمَّاراً بالمعروف ، نهـَّاءً من المنكر ، ولكن أكثر الناس لايعلمون
وهو الذي رثوتـه بهذه القصيدة :
مضى فالعلْم منتحبٌ يَهيــمُ ** وكـلُّ المسْلمينَ بهمْ وُجـُـومُ
ومن لمْ يبكِ من أسَفٍ عليهِ ** فلا نُعْمـى عليهِ ، ولا كريــمُ
كــأنَّ تردَّدَ الأفْلاكِ نَعْـيُّ ** تـُردِّدُه ، بــها حزنٌ إليــمُ
تطيفُ بهِ الكواكبُ نائحاتٍ ** وذلكَ أنَّ كوْكَبـَـهُ الزعيــمُ
وقدْ بكت النُّجوم لهُ وناحتْ ** فقـدْ كانتْ به تُهدَى النجـومُ
كذا الجوزاءُ تذْكره فتُبـْدي ** إلى الدبران ما يُبـدِي الكليـمُ
هو المثَـَلُ الكبير من المعالي ** هو الأدبُ الرفيـعُ ، هو العلـومُ
هو الأسَدُ الهزبرُ فلا يُبـَالي ** يقولُ الحقَّ ، إنْ ضـَجَّ الغَشـُومُ
وأطلقَ منْ مَعارفـِهِ عُلوُمــاً ** بها في النَّاس تنْـدهشُ الفهُـومُ
علا فوقَ المعارفِ وهْيَ شمسٌ ** ففوْقَ الشمسِ منزلُه العظيــمُ
سأبكيـِهِ ومـا أُبقـي بعيـْنٍ ** سـوى دمـعٍ على دمعٍ يدومُ
وقد أثـمرت دعوته عدة مدارس سلفية تنشر الدعوة السلفية في موريتانيا ، وإنتشـر السلفيون يدعـون إلى الله تعالى ، بالدعوة الإسلامية الصافية النقية من كلِّ شوائب البدع ، والخرافات ، وآراء الفرق الضالة ، حتى نشأ فيها آلاف من العلـماء ، و الدعاة ، والمصلحين ، والمجاهدين ، ولازالوا إلى يومنا هذا هم من خيرة المجتمع الموريتاني المجبول على التمسك بالدين .
فهذه نبذة مختصرة عن السلفيين في موريتانيــا ، وهم على نهجهم ماضون ، وبدعوتهم المباركة سائرون ، ولهم في الناس أعطر سيرة ، وأجمـل سريرة ، بفضل الله تعالى ، ومعلوم أنّ السلفيين هم خير المجاهدين في بلاد الإسلام ، ومن قاموا بوجه الحملة الصليبية ضد الإسلام أحسن قيام ، في أفغانسـتان ، والعراق ، وفلسطين ، والصومال ، وباكستـان ، وغيرها ، فلله درهم ، وعليه شكرهم .
،
وبه تعلم ما في نشـر خبـر بصيغة ( توبة السلفيين في موريتانيا ) ـ إن كان المقصود به تراجع مجموعة من الشباب عن رأي ما ـ من التجنِّي ، والظلم ، والتلاعب بالألفاظ ، بقصد نصرة طرف على طرف ، وإظهار السلفيين بصورة مشينة ، لحاجة في نفس ناشر الخبـر ، جنحت إلى التعصـب ، نسأل الله أن يجمع المسلمين على الحبِّ ، ويؤلـف بين قلوبهـم .
أما سؤال هل يقال لمن رجع عن إجتهاده في مسائل الإجتـهاد أنـه تاب ، وذكرت أنت لذلك مثلا : مراجعة نهج التغييـر للسلطة غير الشرعية ، فالجواب أنَّ هذا أيضا من التلاعب في الألفاظ ، الذي قـد تستعمله السلطات الطاغيـة لتزرع في نفوس الناس أنَّ مجرد التفكير في تغييرها خطيئة تجـب التوبة منها !
وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا في إجتهادهـم في الخروج على الحاكم الجائر ، وكان معلومـا أنَّ من تغير رأيـه في مسائل الإجتـهاد ، لايقال إنه تـاب ! فكيف بمن تغيـر إجتهاده في وسيلة التغييـر لسلطة لاتحكـم بالشريعة ، فهي سلطة غير شرعية ، إذ أجمعـوا على أنّ شرعية الحاكم ، مرتبطة بحاكمية الشريعة ، فلا حاكمٌ شرعي إلاَّ من حكـم بالشريعة ، ونصوص الكتاب ، والسنة الدالة على ذلك قطعية الدلالة ، والثبوت ، لامجال لتأويلها.
وأنقل لك ما ذكرته سابقا في مسألة الخروج على الحاكم الجائر ، فقد ذكرت نزاع العلماء في حكمه ، فقلـت ما يلي :
( مذهب من يقول من السلف ، والخلف ، بوجوب خلع الحاكم الجائر ، ولو بقوّة السلاح ، إن لزم الأمــر :
قالوا : ذلك أن الله تعالى أمر بإنكار الظلم وإزالته ، وشرع ذلك أولاً باليد ، ولأنّ الجور سبب لفساد البلاد والعباد ، وفي دفعه تحقيق الصلاح ، والمصالح العامّة التي ماجاءت الشريعة إلاّ لتوفيرها للناس ، وما مبنى هذه الشريعة ـ أصـلا ـ إلاّ على هذا الأساس .
قال الإمام ابن حزم رحمه الله : ( إنّ سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، إذا لم يمكن دفع المنكر إلاّ بذلك ) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/171
وقال رحمه الله : ( وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكلُّ من معه من الصحابة ، وقول أم المؤمنين عائشة رضي اللهعنها ، وطلحة ، والزبير ، وكلُّ من كان معهم من الصحابة ، وقول معاوية ، وعمرو ، والنعمان بن بشير ، وغيرهم ، ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وهو قول كلّ من قام على الفاسق الحجاج ، ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم ، كأنس بن مالك ، وكلّ من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين ) .
ثم قال ( ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ، ومن بعدهم كعبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر ، وكعبدالله بن عمر، ومحمد بن عجلان ، ومن خرج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ، وهاشم بن بشر ، ومطر الوراق ، ومن خرج مع إبراهيم بن عبدالله ، وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء ، كأبي حنيفة ، والحسن بن حي ، وشريك ، ومالك ، والشافعي ، وداود وأصحابهم ، فإنّ كل من ذكرنا من قديم ، أو حديث ، إما ناطق بذلك في فتواه ، وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكـرا ) الفصل 4/171ـ172
وقال أصحاب هذا المذهب :
وقد أمرالله تعالى بقتال الفئة الباغية قائلا : ( فَقَاتِلوُا التّيِ تَبْغِي حَتىّ تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) وقد علق الحكم على وصف البغي ، وهو دليل بيـّن على أن السلطة إنْ تحقق فيها هذا الوصف ، يجــب أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله .
فإن قيل : إنَّ الآية في طائفتين اقتتلتا باغيةً إحداهما على الأخرى ، وليست في قتال السلطة الباغية ؟!
فالجواب : إنّ عموم الآية يتناول سلطة البغي ، المنحاز إليها طائفة البغي ، الظالمة لبقية المسلمين ، فهي طائفة بلا ريب ، وهي باغية بلا شك ، فوجب الانقياد للأمر الإلهي بقتالها ، عملا بظاهر القـــــرآن.
قالوا : ولئن دل قوله تعالى : ( فإنْ بَغَتْ إِحْداهما عَلىَ الأُخْرَى فقَاتِلُوا التي تبْغي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) على وجوب قتال الباغين من غير السلطـة إلى غاية الرجوع إلى حكم الشريعة ، فما باله لايدل على قتال الباغين من ذوي السلطة إلى غاية هي الرجوع إلى الشريعـة ؟!! والحال أن بغي السلطة أشد ضررا ، وأعظم خطرا ، وأكثر فسادا ؟! إنَّ هذا لعجـب !!
وقالوا : وقد عمل من ذكرنا من السلف بهذه الآيــة ، وبالنصوص القرآنية التي تنفي العهد عن الظالمين قال تعالى: (قالَ إنيّ جاعِلُك للنّاسِ إِمَاما قاَل لاَيَنالُ عَهْدِي الظّالميِن ) .
وبالنصوص النبويّة التي أمرت بالأخذ على يد الظالمين ، فمن ذلك :
حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواهمسلم
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه تلا قوله تعالى ( يا أيها الناس عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية فتضعونها في غير موضعها وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنّ الناس إذارأوا المنكر ولا يغيرونه ، أوشك أن يعمهم بعقابه ) وقد ورد مرفوعا : ( إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) خرجه احمد وأبو داود والنسائي
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون ، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون مالا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل ) رواه مسلم
قالوا : وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليتخوف على أمته الأئمة المضلين ، ثم لاتكون شريعته داعية إلى إزالة ما يخاف على أمّته منه !
ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال ( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) خرجه الترمذي ، وقال ( وإنما أتخوف على أمتي أئمة مضلين ) خرجه أحمد أبو داود وابن ماجـــة ، وقال ( أشد الناس عذابا يوم القيامة : رجل قتله نبيُّ ، أو قتل نبينا ، وإمام ضلاله .. الحديث ) خرجه أحمد
قالوا : ولهذا قال الصديق رضي الله عنه ـ كما في السير ـ في أول خطبة سياسية في الإسلام مبيّنا سنة هذه الأمة في تحقيق العدل ، ومحاربة الظلم : ( إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ) ..قال ابن كثير : إسناده صحيح
ولهذا قال عمر رضي الله عنه لكعب رضي الله عنه : إني سائلك عن أمـرٍ فلا تكتمني ، قال: والله لا أكتمك شيئا أعلمه ، قال ، أخوف شيء تخوفه على أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أئمة مضلين ، قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إلي ، وأعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه أحمد
قالوا : وهذا مذهب سيد الفقهاء أبي حنيفة النعمان رحمه الله ، قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن : ( وكان مذهبه رحمه الله مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور) وقال ( وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وفي حمله المال إليه ، وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته ، والقتال معه ، وكذلك أمره محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن حسـن ) .
قالوا : وهذا نجم العلماء مالك بن أنس رحمه الله ، قد أفتى الناس بمبايعة محمد بن عبدالله بن حسن عندما خلــع الخليفة المنصور ، حتى قال الناس لمالك : في أعناقنا بيعة للمنصور ، قال : إنما كنتم مكرهين ، وليس لمكره بيعة ، فبايع الناس محمد بن عبدالله بن حسن عملا بفتوى الإمام مالك .. ذكــره ابن كثير في البداية والنهايـة 10/84
وقد قالت المالكية : ( إنما يقاتل مع الإمام العدل ، سواء كان الأول ، أو الخارج عليه ، فإن لم يكونا عدلين ، فأمسك عنهما إلاّ أن تراد بنفسك ، أو مالك ، أو ظلم المسلمين فادفع ذلك ) أحكام القرآن لابن العربي .
وقال ابن العربي : ( وقد روى ابن القاسم عن مالك : إذا خرج على الإمام العدل ، خارج وجب الدفع عنه ، مثل عمر بن عبد العزيز ، فأما غيره فدعه ، ينتقم الله من ظالم بمثله ، ثم ينتقم الله من كليهما ، قال الله تعالى " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ، وكان وعدا مفعولا " ، قال مالك : إذا بويع للإمام فقام عليه إخوانه ، قوتلوا إن كان الأول عدلا ، فأما هؤلاء فلا بيعة لهم ، إذا كان بويع لهم على الخوف ) أحكام القرآن
قالوا وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل في رواية ، فقد ذكر أبن أبي يعلى في ذيل طبقات الحنابلة عنه ( من دعا منهم إلى بدعة فلا تجيبوه ولا كرامــه ، وإن قدرتم على خلعه فافعلوا ) طبقات الحنابلة 2/305
قالوا : وإن كان المشهور من مذهبه ، تحريم خلع الإمام الجائر ، غير أنه يمكن التوفيق بأن قوله بالتحريم يحمل على عدم القدرة لأنه حينئذ فتترجح المفسدة ، ويبقى الظلم بل قد يزداد.
ولهذا ذهب بعض محققي الحنابلة إلى القول بخلع الجائر ، منهم ابن رزين ، وابن عقيل ، وابن الجوزي ، رحمهم الله ، كما ذكر ذلك المرداوي.
إنتهى المقصود نقله من مقال سابق ،
وقـد قال الإمام الجويني بعدما ذكر عدم إنعزال الإمام بالفسق : ( وهذا في نادر الفسقِ , فأما إذا تواصل منه العصيان , وفشا منه العدوان ، وظهرَ الفساد , وزال السداد , وتعطلتِ الحقوق , وارتفعت الصيانة , ووضحتالخيانة , فلا بدّ من استدراك هذا الأمر المتفاقم , فإنْ أمكن كفُّ يده ، وتولية غيره بالصفات المعتبرة , فالبدار البدار , وإن لم يمكن ذلك لاستظهاره بالشوكة إلاَّ بإراقة الدماء , ومصادمة الأهوال , فالوجه أن يُقاس ما الناس مندفعون إليه , مُبْتَلون به بما يعرض وقوعه , فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُتوقَّع , فيجبُ احتمالُ المتوقّع , وإلا فلا يَسُوغ التشاغل بالدّفع ) أ.هـ
وقد رجحت في المقال المعزوُّ إليه ، عدم جواز الخروج على الحاكم الجائـر بالقوَّة ، بل يجب إستعمال وسائل أخرى ـ كما ذكر الإمام الجويني ـ كما بيَّنت في فتوى أخرى أنَّ محاولات تغييـر النظم الحاكم بغير الشريعـة بالسلاح ـ في مشهـدنا الحالي ـ نهج لايؤدي إلى هدف التغييـر المنشـود ، لفقدانه شروط التغييـر إلى الأحسـن ، بل يستفيد منه النظام للإمعان في فساده ، ودعوت إلى العدول عنه ، إلاَّ أن يستكمل مشروع التغييـر عوامل نجاحـه .
أما سؤالك عن التفريق بين تعطيل الحاكـم للشريعة ، وتبديله الشريعة ، وأنَّ الحاكم المبدِّل تشمله نصوص الحكم عليه بالـردِّة ، والمعطـّل ليس كذلك ، فتفريق متكـلَّف وغريـب جداً ، ليس عليه دليل من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولاإعتبار صحيح ، وهو مع ذلك كلامٌ متناقض ، فالسلطة المعطّلـة للشريعة الإسلامية ، لابـدّ لها من شريعة أخرى تحكم بها ، فتكون مبدّلة ولابـد ، وحينئذ تتناولها النصوص التي بيَّنـت كفر الحاكم بغير شريعة الله تعالى ، فلا تعطيل إلاّ بتبديل ، ولاتبديل إلاَّ بتعطيل ، وهما متلازمان في مسألة الحكم .
أما سؤالك عن قـول القائـل : إنَّ المبـدّل للشريعة ، لايُسمى مبدلاً إلاَّ إذا زعم أنَّ ما حكم به من غير الشريعة ، هو من الله تعالـى ، فإنّ هذا تحكُّـم محـض ، لا برهان عليه ، ومعلـوم أنَّ جعل القوانين الوضعية الأوربية التي وضعها الكفرة ، الزناة ، الفجرة ، الملحدون ، الصادُّون عن دين الله ، بدل شريعة الله تعالى المطهَّرة ، المنزلة على سيد البـررة ، يُسمـَّى ( تبديـلا ) لغـةً ، فالتبديل هو جعل الشيء مكان الشيء ، أو تغييره مطلـقا.
ومعلوم أنَّ من جاء بأحكام الكفرة ، وقوانين الفجرة ، فحكم بها بين المسلمين ، ونزع القرآن ، والسنة ، وحارب تحكيمهما في أمة المؤمنين ، أنـَّه أشـدُّ جرما ، و أشنع خبـثا ، ممن زعم أنه يحكم بما أنزل الله ، وهو لايفعل ، لأنَّ الأوَّل جميع بين الحكم بغير الشريعة ، وتعظيم قوانين الطاغـوت ، وإخضاع المسلمين لدين الكفَّـار ، ذلك أنَّ القوانين الوضعيـة التي تحكم على السلوك الإنساني فتحرّم ، وتحلّل ، وتبيح ، وتجـرّم ، هي دين الكـفار الذي به يدينون في هذا العصـر ، وعقيدتهم التي إليها يرجعـون ، وهذا هو أعظـم صـور الموالاة لأعداء الله تعالى .
وكلاهما يتناوله قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) فنعمة الله هي رسالة محمِّد صلى الله عليه وسلم الهادية إلى كلّ خير ، والكفر هو كلّ ما يخالفها ، وكلُّ ما يخالفها هـو الجاهلية ، كما قال تعالى ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) وقد ذكر الله تعالى ، هذه الآية الكريمة بعدما جمع أوصاف الذم للحاكم بغير الشريعة ، ثـم سمَّى كلَّ ما سواها ، حكمـاً بالجاهلية ، وقـد جعله تبديلا ، وحينئذ فلا يكون الحاكم بالجاهلية ، سلطةً شرعيَّـة لأمـّة الإسلام ، إذ لايوجد تناقض أكبر من التناقض بين الحكم بالإسلام ، والحكم بالجاهلية ، فكيف يكون الحاكم بالجاهلية ، حاكما شرعيا على المسلمين ؟!!
،
هذا .. ونسأل الله تعالى أن يهدي الجميع لما يحبه ويرضاه ، وأن يسلك بهذه الأمة أمراً رشداً ، يعـزُّ الله فيه أهل طاعته ، ويحكم فيه بشريعته ، ويذل فيه أهل معصيته ، وتُقصى قوانين الطاغـوت من بلاد المسلمين .. آمين
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . |