السائل: سائل التاريخ: 10/03/2008 عدد القراء: 8002 السؤال: فضيلة الشيخ : تناقشت مع شاب في مسألة فقال لي إن الحق في مسائل الخلاف مع المجاهدين ، لهذه الآية ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ، فقلت له لكن هذه المسألة واضحة والدليل فيها واضح ، ثم المجاهدون يختلفون ، والواجب الرجوع إلى العلماء؟ نرجو الإفادة والتفصيل رعاك الله
جواب الشيخ:
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
ربمّـا يقع في هذه القضية لبس ، سببه سوء فهم ، مع قلّة علم ، ولهذا ينبغي أن ننقل كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية أوّلا ، ثمّ نبيّن المقصـود .
قال ابن كثير رحمه الله : " ثم قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين ، ( لنهدينهم سبلنا ) أي لنبصرنهّم سبلنا أي طرقنا في الدنيا ، والآخرة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا ، في قول الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) قال : الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم الله لما لا يعلمون ، قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجب"
وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير : "ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله ، أردفه بحال عباده الصالحين ، فقال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته، ورجاء ما عنده من الخير، لنهدينهم سبلنا : أي الطريق الموصل إلينا ، قال ابن عطية : هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي ، وإنما هو جهاد عام في دين الله ، وطلب مرضاته ، وقيل : الآية هذه نزلت في العبّاد ، وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون ( وإن الله لمع المحسنين ) ، بالنصر والعون ، ومن كان معه لم يخذل "
وقال الإمام القرطبي : "قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا الكفار فينا أي في طلب مرضاتنا ، وقال السدي ، وغيره : إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال، وقال ابن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي ، وإنما هو جهاد عام في دين الله ، وطلب مرضاته"
قال الحسن بن أبي الحسن : الآية في العبّاد ، وقال ابن عباس و إبراهيم بن أدهم : هي في الذي يعمون لها يعلمون ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم ) ونزع بعض العلماء إلى قوله : (واتقوا الله ويعلمكم الله ) ، وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا ، تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا ،لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا ، قال الله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) "
وقال أبو سليمان الداراني ليس الجهاد في الآية قتال الكافر فقط ، بل هو نصر الدين ، والرد على المبطلين ، وقمع الظالمين ، وعظمه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكرة ، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله ، وهو الجهاد الأكبر .
وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك : إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول : ( لنهدينهم ).
وقال الضحاك : مثل السنة في الدنيا ، كمثل الجنة في العقبى ، ومن دخل الجنة في العقبى سلم ، وكذلك من لزم السنة في الدنيا سلم
وقال عبد الله بن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا ، لنهدينهم سبل ثوابنا ، وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال .
ونحوه قول عبد الله بن الزبير قال : تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني ، فليطلبني في موضعين : أن يعمل بأحسن ما يعلمه ، ويجتنب أسوأ ما يعلمه .
وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير ، أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا ( لنهدينهم سبلنا ) أي طريق الجنة ، قاله السدي النقاش : يوفقهم لدين الحق ، وقال يوسف بن أسباط : المعنى لنخلصن نياتهم ، وصدقاتهم ، وصلواتهم ، وصيامـهم "
وقال في زاد المسير : (والذين جاهدوا فينا ، أي قاتلوا أعداءنا لأجلنا، لنهدينّهم سبلنا، أي لنوفقنّهم لإصابة الطريق المستقيمة ، وقيل لنزيدنهم هداية ، وإن الله لمع المحسنين بالنصرة ، والعون ، قال ابن عباس : يريد بالمحسنين الموحدين ، وقال غيره يريد المجاهدين ، وقال ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، لقوله لنهدينهم سبلنا) .
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : " ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم ، كما دل عليه قوله تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فجعل لمن جاهد فيه ، هداية جميع سبله تعالى ، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ، إذا إختلف الناس في شيء ، فانظروا ماذا عليه أهل الثغر ، فإنَّ الحق معهم ، لأن الله يقول : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنــا) "أ.هـ
والصحيح في معنى الآية أنها عامّة ، فكل من يجاهد بالعمل ، يرزق التوفيق للهدى .
ثـم هذا الكلام من الإمامين ، ابن المبارك ، وأحمـد ، يتنزل على واقـع أنّ العلماء كان بعضهم في ثغور الجهاد ، وبعضهم في المدائن الأخرى.
ثم إن المسائل قسمان :
مسائل متفق عليها ، فلا يجوز لأحـد مخالفتها ، ومن خالفها من أهل الجهاد ، فهو مخطئ حتى لو كان من أهل العلم .
ومسائل تنازع فيها علمـاء جمعوا شروط الفتيا ، وهـم في ثغور الجهاد ، مع علماء في خارجها ، فالذين في الثغور أقرب إلى الصواب ، وذلك على سبيل الترجيـح عند الإمامين ابن المبارك ، وأحمد رحمهما الله .
وينبغي التنبـّه إلى أمـور مهمـّة :
أولا : هذه المقارنة ليست بين طلبة علم في الجهاد وبين علماء ، فضلا عن جهّال في ساحات الجهاد ، يفرضون أنفسهم مجتهدين ، وبين علماء.
ثانيا : كما أنها ليست في المسائل التي اتفق العلماء فيها ، ويخطىء فيها مجاهدون ليسوا من أهل العلم ، ويظنون أنّ الحق معهم ، لمجرد أنهـم يحملون السلاح.
ثالثا : أن ما ذكره الإمام أحمد ، وابن المبارك ، ليس نصا مرفوعا ، وإنما اجتهاد في فهم الآية ، يدل على أن هذا من المرجحات في مسائل النزاع عندهما فحسـب.
ومعلوم أنـه حتى إجماع علماء في ثغر من الثغور ، لم يقـل أحـد من العلماء أنـه مصادر الأحكام.
فينبغي أن يفهم كلام الأئمة فهما صحيحا.
مع أنّ اليوم عامة مسائل الجهاد لاخلاف فيها أصـلا ، إنما هو جهاد دفع ، عامـة مسائله في دائرة ما اتفق عليه ، وثمة مسائل النزاع فيها قديم بين الفقهاء.
وإنما يحدث بعض الجهال أمورا متفق على مخالفتها للصواب ، ويظنون أن الهدى معهم لأنهم في حال الجهاد فحسـب ، وقد يكون فيهم ما في غيرهم من الأمّة ، من الجهل ، والتقصيـر ، والتعصّب ، ولايخفى أنـه لـم يزل في طائفة الجهاد ، ما في الأمة من النقص ، مما تقتضيه طبيعة البشـر ، ولايسلم منه أحـد ، غير أنَّ المجاهدين في الجمـلة خيرة أهل الإسلام ، وأفضلهـم.
والله أعلم
|