معنى قوله تعالى : " إلا أن تتّقوا فيهم تقــاة "
أي كما لو أخذ الكفـّـار المسلم ، فهددوه بالقتل أو التعذيب فيوافقهم في الظاهر وقلبه مطمئن بالإيمان .
وليس معناه أن يترك المسلمون الجهاد ، ويذلّون لأعداءهم ، ويوافقونهم في دينهم ، ويتنازلون عن الحق الذي أنزله الله عليهم ، وأمرهم أن يجاهدوا في سبيله ، خوفا أن يصيب أعداؤهم منهم وأن يأخذوا بعض ما في أيديهم ، فإن الله تعالى قد سمّى هذا الهلاك ، قال تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) .
و من زعم أن التقية في الآية هي أن يترك أهل الإسلام جهاد العدوّ ، فهذا لم يقل به أحدٌ من العلماء فيما أعلــم ، ثــمّ إن سبب ترك هؤلاء الحكـام مواجهة الكفار ، حبّهم للدنيا وإيثارهم لشهواتها ، وتقلبهم في ملذاتها ، وتضييعهم حق الله عليهم ، وظلمهم للناس ، فأذلهّم الله تعالى للكفـــار ،
ومعلوم أن كلّ من يأبى أن يكون عبدا لله تعالى حقا ، يصيّره الله تعالى رقيقا ذليلا لغيره ، جزاء وفاقا .
وكل من يطلب العزة من غير الله تعالى ، يصير أمره إلى الذل .
وكل من يطلب الأمن عند الكفار ، يوؤل أمره إلى الخوف وزوال الأمن وحلول النقم وذهاب النعم ، سنة الله تعالى.
ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تعالى تحويلا ، ولتعلمن نبأه بعد حين .
أما الابتلاء فهــو نوعان :
أحدهما : ابتلاء هــو عقوبة على ذنب ـ قد يكون منه ضيق الرزق أو ذهاب عافية البدن أو تفرق الأحبة أو تشتت الأمر ـ ثم إن صارت عاقبته الصبر والاستغفار وعرف العبد أن سبب ابتلاءه عقوبة على ذنبه ، فتضرّع إلى ربـّه ، صارت عاقبة الابتلاء خيرا له ، فخففت عنه عذاب يوم القيامة ، وكسب الحسنات على استغفاره وصبره .
واستفاد من البلاء لأنـّه بصره بذنبه ، بمنزلة الذي ظهر في جسده داء فشعر به وتدارك أمــره ، وهذا الذي أراد الله به خيرا .
وإن لم يتب ولم يصبر ولم يتضرع صار البلاء عقوبة في الدنيا دون العذاب الأشد يوم القيامة عافنا الله تعالى ، وهذا لم يستفد من البلاء ولم ير ذنبه بمنزلة الذي فيه داء ولا يشعر به حتى يهلكه.
والنوع الثاني ابتــلاء هو امتحان ليرى الله تعالى صدقه فيما يدّعيه ، وقد يكون المصائب أو بالنعم ، فإن صبر واتقى الله تعالى رفع الله درجته .
وإن نسي حق الله عليه في جانب النعم ، أو جزع ولم يصبر في جانب المصائب والتكاليف صارت عاقبته إلى السوء بسبب أنه كان في باطنه سوء فظهر علانية .
ولا يصبر العبد على مكروه ، ولا تحصل له عاقبة محمودة ، إلا على قدر تعلقه بالله تعالى واستعانته به ، وتوكله عليه ، واعتصامه بالتقوى .
والله أعلم