السائل: زائر التاريخ: 26/05/2008 عدد القراء: 7267 السؤال: فضيلة الشيخ ما هو الرد على الذين يرفضون القبول بخبر الآحاد ، أو الذين يقولون نأخذ به في الأحكام ، ولانأخذ به في مسائل العلم ، لانه لايفيد العلم ؟!
جواب الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
مضـت أئمة الهدى ، وسلف الأمة الصالحون ، من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن تبعهم ، من التابعين ، ومن يليهم على الاحتجاج بالسنة ، بلا تفريق بين متواترها ، وآحادها ، مادامت صحيحة الإسناد ، جاءت بطريق الثقات.
وعلى تقديمها مع القرآن العظيم ، على كلّ ما سواهما .
وعلى أن هذا هو منبع الهدى ، والصراط المستقيـم ، والنور الدال على الدين القويم.
ونذكر فيما يلي الأدلة من الكتاب ، والسنة ، ثم كلام الأئمة ، علـى الاحتجاج بحديث الآحاد ، وعلى لزوم العمل به :
1ـ قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ، ولفظ الطائفة يتناول الواحد فما فوقه ، مما يدل على قيام الحجة بخبر الآحاد ، فلم يشترط الله تعالى التواتر .
ومعلوم أن التفقه في الدين ، يشمل مسائل العلم أي العقيدة، ومسائل العمل.
2ـ ومنها قوله سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ، وفي قراءة : (فتثبتوا)
، وقـد دلت الآية على أن الخبر ، إن رواه الثقـة ، قامت به الحجـة ، ووجب العلم بـه ، والعمل ، ولا يلزم التثبت فيه .
3ـ ومنها قوله سبحانه : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
فقد أمر الله تعالى في هذه الآية ، بسؤال العلماء ، وذلك يشمل الواحد ، فدل على أنَّ أخبارهم تقوم بها الحجة ، وذلك يشمل أيضا مسائل الإعتقاد ، والعمل.
4ـ وقوله سبحانه : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ،
وقد دلت الآية أنَّ الحجة تقوم على الخلق ، بخـبر لايبلغ مبلغ التواتـر ، ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة ، لتعذر تبيلغ الناس ، إلاّ بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد علم أن البلاغ مستمر إلى يوم القيامة ، وأنه يحصل بغير التواتر ، ولو كان يشتـرط التواتر ، لتعذر أصلا .
5ـ وفي القرآن أن موسى عليه السلام أخـذ بخبر الرجل الذي جاء من أقصا المدينة يسعى فقال ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) ، فجزم بخبره وخرج هارباً ، كما أخذ بخبر المرأة التي قالت ( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) .
6ـ وكذلك فعل يوسف عليه السلام ، عندما أخذ بخبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له : (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النســـــوة اللاتي قطعن أيديهن) .
7ـ في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه وغيره : (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) ، وهذا يشـمل الواحـد قطعا .
8ـ وفي حديث مالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) متفق عليه ، وحديث ابن مسعودرضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل ، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ) رواه البخاري وغيره
وفي رواية لابن عمر: (إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) متفق عليه ،
وهذا كله فيه وجوب قبول خبر المؤذن بدخول الوقت .
9ـ وقد استفاض من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، أنـه كان يبـعث الآحاد من صحابته ، وأنه كان يقبل ما يأتون به من اخبـار ، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة و زيد بن خالد رضي الله عنهما، قوله صلى الله عليه وسلم : ( واغد يا أنيس - لرجل من أسلم إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) ، فاعترفت فرجمها ، فاكتفى - صلى الله عليه وسلم- بخبره في ثبوت إقرارها ، مع أنـه إقامة حد مغلـَّظ فيه قتل نفس مسلمة ،
10ـ وفي يوم الأحزاب رضي النبي صلى الله عليه وسلم ، بخـبر الزبيـر حين قال : ( من يأتيني بخبر القوم؟) فانتبـدب لذلك الزبير رضي الله عنه.
11ـ كما تواتر عنه عليه الصلاة والسلام ، أنه كان يبعث آحاد الصحابة ، إلى الجهات القريبة ، والبعيدة ، يبلغون دين الله ، ويعلمون الناس العقائد ، و الأحكام ، ويفتون الناس ، ويقضون بينهم
كما رواه الشافعي عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت : " بينما نحن بمنى إذاعلي بن أبي طالب على جمل يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : " إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد" ،
وروى الترمذي من حديث يزيد بن شيبان قال : كنا في موقف لنا بعرفة ، بعيداً عن موقف الإمام ، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال : " أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم "
وفي الصحيحن قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لأهل نجران : ( لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين) ، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه ،
كما بعث أبا بكرسنة تسع على الحج ، فأقام للناس مناسكهم نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
كما بعث علياً تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم ، وبلغ عنه أول سورة براءة ،
وبعث قيس بن عاصم ، و الزبرقان بن بدر ، و مالك بن نويرة إلى عشائرهم ، للتعليـم ، وأخذ الصدقـة
وبعث معاذاً و أبا موسى و عماراً وغيرهم إلى جهات عدة من اليمـن .
وأما إبتعاثـه الأمراء في السرايا والبعوث ، وأمره بطاعتهم فيما يخبرون عنه ، وما أرسله إلى الملوك في وقتـه من الكتب و الرسائل التي يحملها آحاد أصحابه ، مثـل بعثـه دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم ، و عبدالله بن حذافة إلى كسرى ، فهذا كله مشهور ، مستفيض ، لاينكره إلاَّ جاهل.
كما كان صلى الله عليه وسلم ، يبـعث كتبه التي كان يبعثها إلى من يوليهم ، ويستعملهم ، وتحمل هذه الكتب ، الأوامر ، والأحكام ، يحملها آحاد الصحابة إلى عماله ، وولاته ، ولم يقل أحـد أن هذه أخبار لم تبلغ حد التواتر فلا يؤخذ بهـا ، أو لاتفيد العلـم ،
ولهذا كان علم الصحابة المتواتر عنهم ، الأخذ بخبر الآحاد ، والاحتجاج به
ونذكر هنا بعض الآثـار الصحيحة ، فمنها :
ما في الصحيح عن ابن عمررضي الله عنهما أنه قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ، فهؤلاء الصحابة أخذوا بخبر صحابي واحـد ، واعتقدوا به عقيدة القبـلة وهي من أعظم عقائد الإسلام ، حتى اطلق على المسلمين أهل القبلة.
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : " كنت أسقي أبا طلحة و أبا عبيدة ، و أبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها " ، فهذا تصرف واضح بقبول الخبـر من الواحد الثقة ، وإعتقاد تحريم الخمـر به ، والعمل بذلك
وها هـو عمررضي الله عنه يقول لأصحابه : " أَذْكَرَ الله امرأً سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً ، فقام حمل بن مالك فقال : " كنت بين جارتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنيناً ميتاً ، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بغرة ، فقال عمر :" لو لم نسمع به لقضينا بغيره " .
وأيضا فقـد رجع عمر رضي الله عنه بالناس ، حين بلـغه أن الوباء قد وقع بها ، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القـدوم على بلده وقع بها الطاعون ، والخبـر في الصحيحين.
وهذا الذي مضى عليه الصحابة ، اقتدى بهم التابعون فيه ، ومن أخذ عنهم من السلف الصالح ، حتى حدثت بدع الكلام المذموم.
ولهذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ، ولم يزل سبيل سلفنا ، والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل ، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ......ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ، والانتهاء إليه ، والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه - بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " أهـ . ( الرسالة 1/451)
كما قال أيضا : " لم أسمع أحداً - نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتسليم لحكمه ، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، إلا فرقة سأصف قولها- إن شاء الله تعالى – " أهـ . ( الأم 7/460)
ونقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وهـو من هو في الإحاطة بمذاهب العلماء السابقين ، واللاحقين : " وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتواتر لفظه ولا معناه ، لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له …....فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين ، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع " أهـ. ( مختصر الصواعق 2/372 ).
وبهذا كلّه يعلم أنَّ الأخذ بخبر الواحد ، والإنقياد لما دل عليه ، من العلم و العمل ، هو ما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة ، وأجمع عليه الصحابة ، والسلف الصالح ، وأن من حاد عن طريقهم ، فهو سالك سبيل ضلالة ، مقتحـم باب بدعة وشر .
وإنما كان مبدأ ظهور هذه البدعة ، لما احتج أهل السنة على أهل الكلام المبتدع بالأخبار ، فظهرت عليهم الحجج ، وسقط في أيديهم ، فلجئوا حينئذ إلى هذه الحيلة الساقطة ، وادعوا أن الخبر ما لم يبلغ التواتـر ، لايفيد العـلم .
وقال بعضهم يؤخذ به في الأحكام العملية ، ولا يفيـد العلم ، وهذا تناقض قبيح منهم ، إذ الأحكام العملية ، تشتمل على إعتقاد تحريم الفعل ، أو إباحته ، مما يجعل معتقد ضده ـ فيما أُجمع عليه ـ كافـراً ، كما أن بعض الأحكام العملية تشتمل على أدعية ، وأذكار ، تتضمن مسائل الإعتقاد ، كالإستعاذة من عذاب القبر في آخر الصلاة ، على سبيل المثال ، فكيف يؤخذ بالخبر في استحباب الدعاء ، ويقال لمن يدعو به ، لاتعتقـد ما فيه !!
وقد تقـدمت النصوص الكثيرة التي دلت على اعتبار الشريعة للخبـر الذي لم يبلغ حد التواتـر ، من غير تفريق بين مسائل الإعتقاد ، وغيرها .
هذا ولسنا نعني هنا أن كل ما ليس متواترا ، يفيد اليقين ، فالحديث المقبول ، درجات ، ولكن البدعة هي القول بأن كل ما ليس متواتـرا لايفيد العلم ، مهما بلغت درجته ، ودرجة رواته .
وأشـنع منها البدعة القائلة بأن خبر الواحد ، لايؤخذ به مطلقا ، فهؤلاء يهدمون الشريـعة من أسّها ، ويقوضونها من أساسها .
كما قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحة : " وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلُّها ، لعدم وجود السنن إلاّ من رواية الآحاد " .أهـ . نقلا عن الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156)
ويعني عامة السنن ، ذلك أنَّ المتواتـر منها قليل
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
|