السائل: زائر التاريخ: 04/04/2007 عدد القراء: 20445السؤال: هل من لايبايع ( دولة العراق الإسلامية ) عصاة؟! وهل هو واجب العصر ؟! جواب الشيخ:
فضيلة الشيخ : هل يصح تسمية أبناء الجماعات الجهادية في العراق ، عصاة ، لأنهم لم يبايعوا ما يُسمى الدولة الإسلامية في العراق ، وهل صواب أن هذه البيعـــة هـي : ( واجب العصـر ) وما هي الإمامة الشرعية التي يجب على الناس بيعتها ، وما هو الفتوى في نازلة العراق بصورة عامة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
فإنّ مثل هذا السؤال تكرر كثيرا ، وكنتُ أُرجىء الجواب عليه ، ريثما يثمر النقل الذي أرتضيه ، للعلم الذي يُنبي عليه فهم شامـل للواقع وتصوّره ، وهذا أوان الجواب التفصيلي ، وقبل الجواب على السؤال
نقدم تنبيهيــن :
أحدهما : معلومٌ إطباق العلماء ، على أنّ التجرد لإتباع ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتقديمه على كلّ ما سواه ، هو قطب رحى الدين ، ونظام عقيدة الموحّدين ، وأنّ التعصب لآراء الرجال ، والتحزّب المذموم لما عليه الطوائف ـ حتى لو كانت من أهل الجهاد ـ ليس من سبيل الهدى في شـيء، كما قال الإمام أحمد رحمه الله : ( لا تقلّد دينك أحداً من هؤلاء ، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فخذ به) .
وقال في مدارج السالكين واصفا الغرباء : ( ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ التمسّك بالسنة إذا رغب عنها الناس ، وترك ما أحدثوه ، وإن كان هو المعروف عندهم ، وتجريد التوحيد ، وإن أنكر ذلك أكثر الناس وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله ، لا شيخ ، ولا طريقة ، ولا مذهب، ولا طائفة ، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده ، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده ، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا ، وأكثر الناس بل كلّهم لائمٌ لهم).
وقال في مدارج السالكين واصفا أهل التجرد في إتباع الوحي : (وكان دين الله سبحانه ، أجل في صدورهم ، وأعظم في نفوسهم من أن يقدّموا عليه رأيا ، أو معقولا ، أو تقليدا ، أو قياسا ، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين ، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين ، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم ، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم ، زاهدين في التعصّب للرجال ، واقفين مع الحجة ، والاستدلال ، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه ، ويستقلون مع الصواب، حيث استقلت مضاربه ، إذا بدا لهم الدليل ، بأخذته ، طاروا إليه زرافات ، ووحدانا ، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا ، لا يسألونه عما قال برهانا ، ونصوصه أجل في صدورهم ،وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس ، أو يعارضوها برأي أو قياس).
ثم قال محذّرا من التعصب بالتقليد : ( ثم خلف من بعدهم خلوف ، فرّقوا دينهم ، وكانوا شيعا كلّ حزب بما لديهم فرحون ، وتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا ، وكلّ إلى ربهم راجعون ،جعلوا التعصّب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ، ورءوس أموالهم التي بها يتجرون ، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد ، وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمّـة ، وإنا على آثارهم مقتدون ، والفريقان بمعـزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ،ولسان الحق يتلوا عليهم ليس بأمانيّكم ، ولا أمانيّ أهل الكتاب ، قال الشافعي قدس الله تعالى روحه أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن له أن يدعها لقول أحمد من الناس.
قال أبو عمر وغيره من العلماء : أجمع الناس على أنّ المقلّد ليس معدودا من أهل العلم ،وأن العلم معرفة الحق بدليله ، وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى ، فإنّ الناس لا يختلفون أنّ العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل ، فإنما هو تقليد.
فقد تضمن هذان الإجماعان ، إخراج المتعصّب بالهوى ، والمقلد الأعمى ، عن زمرة العلماء ، وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء ، فإنّ العلماء هم ورثة الأنبياء ، فإنّ الأنبياء لم يورّثــوا دينارا ، ولا درهما ، وإنما ورثوا العلـم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافــر ، وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، من يجهد ، ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلّده ، ومتبوعه ، ويضيع ساعات عمره في التعصّب ، والهوى ، ولا يشعر بتضييعه ) .
ولهذا كان يقول في مدارج السالكين وهو يرد على الهروي : ( شيخ الإسلام ـ يقصد الهروي ـ حبيبٌ إلينا ،والحق أحب إلينا منه ، وكلّ من عدا المعصوم ، فمأخوذ من قوله ومتروك) .
الثانية : أن أهـل الجهاد شأنهم شأن غيرهم ، قـد يصيبهم ما يصيب المتنافسين على أمـرٍ جامـع ـ وإن كان من الحقّ ـ التشاحّ ، والتحاسد ، والأثرة ، وحبّ الرئاسة ، كما هو حال كثيـر من الدعاة ، والحركات الإسلامية ، وقد يخفى بعض ذلك على من يحمله ،
كما قال شيخ الإسلام : (و أيضا مما يبين أن الإنسان قد يخفى عليه كثير من أحوال نفسه فلا يشعر بها ، أن كثيرا من الناس يكون فى نفسه حب الرياسة ،كامنٌ لا يشعر به ، بل إنه مخلص فى عبادته ، و قد خفيت عليه عيوبه ، وكلام الناس فى هذا كثير مشهور ، و لهذا سميت هذه الشهوة الخفية ، قال شداد بن أوس : يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ، و لشهوة الخفية ، قيل لأبي داود السجستاني ما الشهوة الخفية قال حب الرياسة فهي خفية تخفى على الناس، و كثيرا ما تخفى على صاحبها)
ولهذا قـد يشقّ عليهم قبول الحقّ إن خالف ماهم عليه ،
قال شيخ الإسلام : ( طالب الرئاسة ترضيه الكلمة التى فيها تعظيمه ، وإن كانت باطلا ، وتغضبه الكلمة التى فيها ذمه ، وإن كانت حقا ، والمؤمن ترضيه كلمة الحق له ، وعليه ، وتغضبه كلمة الباطل له ، وعليه ، لأن الله تعالى يحب الحق، والصدق ، والعدل ،ويبغض الكذب ،والظلم).
وقد يحملهم ذلك على إيذاء من ييبيّن خطأهم ، والعدوان عليه ، فهم بشـر ، وكلّ ابن آدم خطّاء ، فيعتريهم ما يعتري البشـر من نزعات الشيطان ، وأهواء النفوس ، وإذا كان هذا لم يُعصـم منه حتى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يُعصم غيرهم منه ؟!
غير أنّ هذا كلّه ، لايجــوز أن يصـدّ القائم بالحق ، القائل بالشريعة ، من الصدع بها ، على الوجه الذي تركها عليـه نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، من غير تبديل ، ولاتحريف ، فهذا الواجب هو أعظـم واجبات الدين ، وأنفع خيـر للمسلمين ، بل للناس أجمعين ،
ذلك أنّ الإحداث في الدين من أعظم الجنايات ، وإبطالــه من أعظم الواجــبات المتحتّمات ، فلا يحابي فيه أحـدٌ كائنا من كان .
وعلى القائم بهذا الواجب ، أن يتحمّل أذى الناس صابرا محتسبا ، ويستغفر لهم إن كانوا صالحين متأوّلين ، ويدعو لهم بالهداية ، والبصيرة ، فهذا واجب أهل العلم ورسالتهم ، لايبتغون من الناس جزاء ، ولاشكورا .
ومعلومٌ أنه قـد يقع بين أهل الجهاد ، بسبب نزع الشيطان ، والجهل ، و الهوى ، إذا أُهمـلت أخطاؤُهم ، ولم تُقـوَّم ، ما هو أعظـم ، فتسفك الدماء ،
لاسيما إن أنضـم إلى الهوى الخفيّ ، فسادٌ في العلم ، تظنُّ معه كل طائفة أنها وحدها على الحــقّ الذي لايجوز الخروج عليه ، فتنزل الآخرين منزلة البغاة ، فإن أصابتهم مع ذلك لوثة الغـلوّ ، جعلوا مخالفيـهـم مرتدين !
وقـد يستحكم هذا الظنّ الخاطئ ، فيولّد في النفس خداعا يثمر اعتقادا بالإختصاص بالمهدي المنتظر ! ثم يحدث بسبب ذلك من العدوان ، والبغي ، والفساد في الحال ، والمآل ، ما يفرح الشيطان ، ويحزن أهل الإيمان ، ويذهب بعض ثمرات جهاد السنان .
ولاريب أن الشيطان إذا أيس من إظهار الكافرين على المؤمنين ، سعى إلى التحريش بين المؤمنين ، وقد يجد في ذلك متَّسـعا ، إن وجـد له في الآذان مسمـعا، فيسلك فيه طريقا موسّـعا .
ولهذا وجب التنبيه على الزلل ، والتحذير من الخطل ، في طريق الجهاد ، ليتجنّبه المخلصون ، ولتسلم ثمرات الجهاد مما يعكّرها ، وهو من النصح الواجب بذله ، فالدين النصيحة ، والمفروض على المنصوح له قبولـها .
وقد ذكرنا في مواضع كثيرة ، أن مشروع الجهاد الإسلامي العالمي ، ليس هـو مشروع خاصّ بطائفة مـا ، ولا هو حكـر على جماعة ما ، بل على جميع القيادات القائمـة عليه ، أن يعـُوا حقّ الوعي ، أنـه مشروع أمّـة الإسلام ، وهـي أمـّة في طريقها إلى النهوض الشامـل ، ولايمكن لأيّ طائفة مهما عظمت تضحياتها ، أن تنهض لوحدها بالأمّة ، مستأثرة بنفسها ، مستبدّة برأيها ، ملغية لجهاد من سواها ، سواء جهاد السنان ، أو اللسان ،
فهذه الروح الإحتكاريّة ، التمزيقيّة ، من السهل أن تجمع لها الأنصار ، وتجنّد لها الأتباع ، فالناس ـ لاسيما الأحداث في السن أو العلم ـ جُبلوا على التعصّب للإنتماء ، والشـغف بالتميز على الآخرين به ،
لكن هذه الروح هـي في الحقيقة ، من أعظم المعوّقات في سبيل نهضة الأمـة ، ولاتصنع شيئا سوى أن ترجع بالأمّـة القهقرى ، وتكرّر التجارب الفاشلة السابقة .
ولهذا كان حقا على كلّ غيور على أمّتنـا أن يبذل النصيحة ، محذّرا من عاقبة إنتشار هذا المنحى ـ الإحتكار والتمزيق ـ في ساحات الجهاد ، فهـو خطـر على مشروع أمّتنـا ، وليس على تلك الساحات فحسب .
ومن حقّ الأمـّة أن ترى ، و تسمـع ، من يوجـّه أيّ إعوجاج في مشروع نهضتها ، وتكون شاهـدة على إنتقـاد أيّ تجربة في طريق نهوضهــا ، فلا أحـد معصوم ، ولا أحـد فوق الإنتقـاد مهما كان فضله وجهـاده ، حاشا رسولنا صلى الله عليه وسلم ( وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحـيٌ يوحـى ) .
والهدف هو تقويم الخطأ من أوّلـه ، وتداركه قبل أن يتفاقـم ، فإنّ الرجوع إلى الصواب ، خيرٌ من التمادي بالخـطأ ، والثائب إلى الحـق ، يرفعه الحـق الذي ثاب إليه ، ولاينقص من قدره شـيء ، بل يزيــد .
ومن هذا الباب تأتي هذه النصيحة :
فنقول ـ بعد هذين التنبيهين ـ في الجواب على السؤال ، بتوفيق الله تعالى
إن قائـل ما ذكره السائل في سؤالـه ، قـد غلط غلطا بيّنـا ، وما يُسمى بالدولة الإسلامية في العراق ـ إنْ قـُصـد أنها الإمامة الشرعية المعروفة في الشريعـة ـ هو الخطـأ الأساس الذي أثمـر تأثيم الآخـرين ، ورميهم بالتقاعس عمّا أطلـق عليه في الســـؤال ( واجـب العصـر ) ؟!
إنّ الإمامة ، التي هي الولاية الحاكمة بالشريعة ، المبسوطة على الرعيـّة بالقدرة ، والشوكة ، والسلطان ، من أعظــم شعائر الدين ، فلايحل لأحدٍ كائنا من كان ، أن يحدث فيها حدثا ، ليس على سبيل المؤمنين ،
وقد بين الله تعالى أنّ التمكين في الأرض ، هو الذي يظهر به الدين ، ويعلو بسلطانـه على المعاندين ، قال الحق سبحانه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول " الذين إن مكناهم في الأرض " الآية ثم قال ألا إنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم ، وبما للوالي عليكم منه ، إن لكم على الوالي من ذلكم ، أن يأخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ، ولا المستكره بها ، ولا المخالف سرها علانيتها ) .
ولايثبت هذا المنصب الديني عند أهل السنة ـ بخلاف الرافضة وغيرهم من أهل البدع ـ إلاّ لمن له سلطان ، مبسوط اليد على الناس ، يحصل بسلطانـه ، مقاصد الإمامة الشرعية حـقّا ، وواقعا ، وهـي ـ أعني المقاصـد ـ ما سنبيّنه بعد قليـل .
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/527: ( ليس هذا قول أئمة أهل السنة ، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة ، كما قال بعضهم تنعقد ببيعة اثنين ، وقال بعضهم تنعقد ببيعة واحد ، فليست هذه أقوال أئمة السنة ، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها ،الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة ، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان ، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان ، صار إماما ، ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله ، فالإمامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ،ولا اثنين ، ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم ، بحيث يصير ملكا بذلك ، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه ، لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ، ولهذا لما بويع علي رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إماما..)
وقال أيضا في منهاج السنة عن الإمام أحمـد : 1/529( وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ، ما معناه؟ فقال تدري ما الإمام ؟الإمام الذي يجمع عليه المسلمون ، كلهم يقول هذا إمام فهذا معناه ).
وقال في موضع آخر 8/227 (فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور، الذين يقام بهم الأمر ، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، عليكم بالجماعة فإن يدالله مع الجماعة ، وقال إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)
وقال في موضع آخر ردا على الرافضي الذي أنكر إمامة من قبل علي رضي الله عنه 8/264: ( قلت والجواب أنه إن أريد بذلك أنهم لم يتولوا على المسلمين، ولم يبايعهم المسلمون ، ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود ، ويوفون به الحقوق ، ويجاهدون به العدو ، ويصلون بالمسلمين الجمع ، والأعياد ، وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة ، فهذا بهت ومكابرة فإن هذا أمر معلوم بالتواتر)
وقال في موضع آخر 1/530: (والثاني أنه متى صار إماما فذلك بمبايعة أهل القدرة له ، وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه ، وأطاعوه ، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ، ولم يبايعوه لم يصر إماما ، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز فالحل والحرمة متعلق بالأفعال ، وأما نفس الولاية ، والسلطان ، فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ، ورسوله ، كسلطان الخلفاء الراشدين ، وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين .
ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه ، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة ، لم يصر إماما بذلك ، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة ، والشوكة ، ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة ، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية ، فإن المقصود حصول القدرة ، والسلطان ، اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك)
قال الشوكاني في السيل الجرار : ( والحاصل أن المعتبر هو وقع البيعة له ،من أهل الحل والعقد ، فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة ، ويثبت به الولاية ، وتحرم معه المخالفة ، وقد قامت على ذلك الأدلة ، وثبتت به الحجـة).
وأهل الحل والعقد المعتبرون الذين يختارهـم الإمام ، فتجب طاعته ،وتثبت ولايته ، هم كما جاء وصفهم :
قال في منتهى الإرادات مبينا من يخاطب بنصب الإمام : ( وأهل الاجتهاد حتى يختاروا وشرطهم العدالة ، والعلم الموصل إلى معرفة مستحق الإمامة ، وأن يكونوا من أهل الرأي ، والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح ، ويثبت نصب إمام بإجماع أهل الحل والعقد ،على اختيار صالح لها مع إجابته).
ويشترط له أن يكون ذكرا ، قرشيا ، كافيا ابتداء ودواما ، عدلا ، عالما مجتهدا ،
قال الشاطبي : ( إن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى ، لاتنعقد إلا لمن نال رتبة الإجتهاد والفتوى في علوم الشرع ) الإعتصام للشاطبي 2/126
وقال إمام الحرمين ( فالشرط أن يكون الإمام مجتهدا بالغا مبلغ المجتهدين ، مستجمعا صفات المفتين ، ولم يؤثر في إشتراط ذلك خلاف ) غياث الأمم 66
والحق أنه قد أُثـر في هذا الشرط ـ الإجتهاد ـ خلاف ، غير أنّ الذين لم يشترطوه ، اتفقوا على أنّه يُشترط أن يكون معه من أهل الإجتهاد ، من يراجعهم في الأحكام.
ثم يجب أن يكون قادرا على القيام بمقاصد الإمامة ، ولايكون له الإمامة الشرعية ، إلا بالقدرة على تحققها عند أهل السنـة :
قال في الإقناع : يلزم الإمام عشرة أشياء
حفظ الدين ، وتنفيذ الأحكام ، وحماية البيضة ، وإقامة الحدود ، وتحصين الثغور - وجهاد من عاند ، وجباية الخراج والصدقات، وتقدير العطاء ، واستكفاء الأمناء وأن وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور.
كما قال السفاريني في نظمه :
لا غنى لأمة الإسلام ... في كـل عصر كان عن إمام
يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني ب الغزو والحدود
وفعل معروف وترك نكر ... ونصر مظلوم و قمع كفر
وأخذ مال الفيء والخراج ... ونحوه والصرف في منهاج
ونصبه ب النص والإجماع ... وقهره فحل عن الخداع
وشرطه الإسلام والحريـة ... عدالة سمع مع الدريـة
وقال في منتهى الإرادات : ( إذا ثبتت إمامته لزمه حفظ الدين على أصوله التي أجمع عليها سلف الأمة ، فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة ، وأخذه بما يلزمه حراسة للدين من الخلل ، وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين ، وقطع خصومتهم ، وحماية البيضة، والذب عن الحوزة ، ليتصرف الناس في معايشهم ، ويسيروا في الأسفار آمنين ، وإقامة الحدود ، لتصان محارم الله تعالى ، وحقوق عباده ، وتحصين الثغور بالعدة المانعة ، وجهاد من عاند الإسلام ، بعد الدعوة ، وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع ، وتقدير ما يستحق من بيت المال بلا سرف ، ولا تقصير ، ودفعه في وقته بلا تقديم ، ولا تأخير، واستكفاء الأمناء ، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم ضبطا للأعمال ، وحفظا للأموال ، وإن يباشر بنفسه مشارفة الأمور ، ويتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة ، وحراسة الملة ، ولا يعول على التفويض فربما خان الأمين وغش لناصح فإذا قام الإمام بحقوق الأمة فله عليهم حقان الطاعة والنصرة)
ولهذا لم يعد العلماء البغاة ـ و هم الذين يخرجون على إمام بتأويل سائغ ـ إلاّ إذا كان الإمام الذي خرجوا عليه مبسوط اليد ، ظاهر الشوكة والسلطان على الناس ، فيخرجون عليه :
قال في المقنع في وصف البغاة : قوم من أهل الحق ـ يعني ليسوا خوارج ولا قطاع طريق ـ باينوا الإمام ، وراموا خلعه ، أو مخالفته بتأويل سائغ ، صواب أو خطأ ،ولهم منعة ، وشوكة يحتاج في كفهم إلى جمع جيش : وهم البغاة أ.هـ.
وواضح أنهم إذا كانوا الأكثـر والأظهر شوكة ممن خالفوا ، فلا معنى هنا أن يكونوا بغاة عليه !
ومع ذلك فالبغاة حتى لو خرجوا على من ثبتت له الإمامة الشرعية ، ليسوا بفسقة ، لمكان تأويلهم.
قال في المغني : (فصل : والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين ، وإنما هم يخطئون في تأويلهم ،والإمام وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام ، من شهد منهم قبلت شهادته ، إذا كان عدلا ، وهذا قول الشافعي ، ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا).
فكيف بمـن لم تثبت له الإمامة الشرعية ؟!
وبهذا يتبين الجواب على سؤال السائل ، وبه ننصح بالرجوع عن إعلان ما سمّى الدولة الإسلامية ، وأن يكونوا ـ كما كانوا سابقا ـ فصيـلا جهاديـا يقف مع بقية الفصائل تحت راية الجهـاد ، كما ننصـح ببثّ روح الأخوة ، والتناصح ، والتآلف بين المجاهدين ، بدل النزعات التي تفـرّق الصـف ، وتمـزّق الجهود .
ذلك أنّ هذه الإمامة ، على غير أصل شرعي ، إذ لايعرف في الإسلام بيعة إمام لسلطان مجهول ، مختـفٍ ، بغير شوكة ، وظهور ، وتمكين ، تحفظ بها السبل ، ويقام بها العدل والأحكام ، وتُصان الأنفس ، والأموال ، والأعراض والثغور ، يرجع فيها الناس إلى أمر رحمة ، وأمن ،
أمـر يُولاّه من يجتمع عليه أمر الخاصة ، و العامة ، ويأوي إليه الضعيف والملهوف ، يعينه أهل الحل والعقد ، من ذي العلم والرأي ، يضعون الأمور في نصابها ، حكما بالحق ، وقضاء بالعلم والعدل .
فإحداث إمامة على غير سبيل الشريعة المرضية ، ثم حمل الناس عليها بالسيف ، إحداثٌ في الدين ، على غير هدى ، ويخشى أن يصيـر ضلالة ينزع الله تعالى بهـا بركته ، ويذهب عن الجهاد ريحـه ، فتحتلب به الأمة دمــا ، لارحمة ورشدا ، وتمزّقــا ، لا إجتماعا وألفــة ، توضع بها السيوف على رقاب المسلمين ، وتلغ في دماء الأمـة ، بعد أن كانت في نحور أعداءها ، وترتد بعد أن كانت فيهم إلى صميم أحشاءها.
هذا ،،، وقـد نشرنا سابقا جوابا ، عن سؤال وردنا عن حكم طالبان ، نعيد نشره لعلاقته بهذه المسألة :
شيخنا الفاضل - حفظكم الله -
ما هي شروطالإمامة ؟
و هل يعتبر الملا عمر - حفظه الله - أميرا للمؤمنين ؟
وجزاكم الله خيرا و بارك الله فيكم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
شروط الامامة معروفة ، وقد ذكرها العلماء في كتب الفقه
وقسموها إلى قسمين :
أحدهما : حال الاختيار والسعة .
والثاني حال الاضطرار ، كمن يتغلـّب بالقوّة ، ويقبض على صولجان الحكم بالشوكة ، وتصير إليه المنعة ، ولايمكن إزالته إلاّ بتفرّق الأمّـة ، وضرب بعضها ببعض ، فالحفاظ على وحدة الأمة ، وصون الدماء ، ومنع الفتنة ، أولى من التمسّك بكل شروط الامامة.
ففي حال الاختيار حيث ، يكون أهل الحل والعقد هم الذين يختارون الإمام ، ويبايعونه.
في هذه الحالة له أربعة شروط: أولها أن يكون من قريش من صميمها ، أي من ولد قريش وهو النضر بن كنانة ،لحديث الصحيح الائمة من قريش.
والثانيأن يكون على صفة يصلح بها أن يكون قاضيا، من الحرية ، والبلوغ ، والعقل والعلم ، والعدالة.
الثالثأن يكون قيما بمقاصد الإمامة ، قائما بأمر الحرب ، والسياسة ، وإقامة الحدود ، قادرا على الذبّ عن الأمة .
الرابعأن يكون من أفضلهم في العلم والدين
وأما في حال الاضطرار ، فالمقصود : من تغلـّب ، وصار حاكما بالقوة ، وصارت له الشوكة والمنعة التي يدفع بها عن أهل الإسلام ، ويقيم الشريعة ، ويقوم بسائر مقاصد الإمامة ، فقـد صحت إمامتـه .
والأصل أن يكون لكل المسلمين إمامة واحدة ، يجتمع بها أمرهم ، وتقام بها شريعتهم ، وتعقد ألوية الجهاد ، ويذب بها عن الأمة ، وتجتمع بها الأمة في أخوة الإيمان ، ورابطة الإسلام ، لايحل للمسلمين غير هذا بالإجماع .
فإن كانت الأمة في حال من التفرق ، ففي هذه الأحـوال الاستثنائية ، يكون كل إمام شرعي ، إماما لمن تحت سلطانه ، فإن كان سلطانه على بعض الأمة ، ، فإمامته علي من تحت سلطانه .
وكان الملا محمد عمر ، إماما لمن تحت سلطانه في بلاد الأفغان ، فسار فيهم بالعدل، وأقام الشريعة ، وذب عن الدين ، حتى ابتلي هو ومن معه بغزو الكفار لبلادهم ،وتسلط عليهم الأعداء من كل مكان ، ولازالوا في بلاء عظيم ، نسأل الله تعالى أن ينصرهم .
وقد كان في حكمه ، من أئمة العدل الذين لم يات في الزمان مثلهم منذأمد طويل ، لكنه اليوم من أئمة الجهاد وليس إماما ذا سلطان وحكم ، لفقدانه اليد المبسوطة على الناس ، ولعدم قدرته القيام بمقاصد الإمامة ، والله اعلم
وختامـــا :
فالفتوى في نازلة العراق قـد بيّناهـا في مواضع عدة ، وحاصلها :
أنّ الراية فيها راية جهاد دفع ، وعامة فصائل الجهاد المعروفة فيه من أهل الخير والفضل ، والصلاح ، والبلاء الحسن في جهادهم ، وقد حققّوا للأمة ـ جميعهم ـ نصرا عظيما ، أوْدى بالمشروع الصهيوصليبي إلى أسفل سافلين ، لكنه لم يزل محتـلا .
والواجب عليهم أن يواصلوا جهادهم ، لتحقيق النصر الكامل ، لايشغلهم عنـه شاغل آخر يقطع عن هذا الهـدف أو يعيقـه ، ثم وضع أسس نهضة يشترك فيها الجميع ، تقود إلى تأسيس نظام إسلامي شامل يستوعب كلّ طاقات الساحة الدعوية والجهادية ، ويتواصل مع سائـر الأمــة.
وأما إحتكار الجهـاد في هذا الميدان ، وكذا التحزّب المذموم ، ونشر العصبيّة والضغائن ، وإنْ أُلبس ذلك لباس الدين ، هـو من عمل الشيطان ،ومن إتباع الهوى ، والواجـب تجنّبـه ، وأن ينأى الجميع بأنفسهم عن هذا السبيل الخطيـر .
كما أن نزعة الغـلو الآخذة في التوسّـع في ربوع الرافدين ، بسبب اختلال كبير في النظام السليــم للتجنيد للمشروع الإسلامي ، في الفكـر ، و السـلوك ، مع انتشار الفوضى ، وإنعدام الأمـن ، وانقطاع السبـل ،
هذه النزعـة ، ظاهـرة خطيـرة تحتاج إلى رصـد ، ومتابعة ، وملاحقة ، لقطع دابرها قبل أن تستـفحـل فتعيد تلك الكوارث المستشنعة ، التي اقترفت في مواضع من البلاد الإسلامية تحت إسم وراية الجهاد، فجنت عليه جناية عظيـمة .
والله أعلـم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا